10-فبراير-2020

تبلور وعي إصلاحي عربي لتحقيق انتقال ديمقراطي (Getty)

منذ أن أطلقت المفكرة الماركسية روزا لوكسمبورغ، موقفها الناقم على الإصلاح، في كتابها المعروف تحت عنوان "ثورة أم إصلاح؟"، تكررت الانتقادات خاصة في صفوف الماركسيين للمفهوم، باعتباره نوعًا من التحايل على الواقع، أو "تحسين شروط العبودية"، وتجميلًا للأزمة التي يعيشها الفقراء والمهمشون. في مقابل ذلك، كان مفهوم الثورة يكتسب شرعية أوسع، باعتبارها لحظة حاسمة ينقلب فيها الواقع، وتتغير فيها جميع المعايير. لكن التجربة التاريخية لا تبدو منحازة لصالح مفهوم الثورة، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالانتقال الديمقراطي.

كان نجاح تجربة تونس ملهمًا على ما يبدو للموجة الثانية من الاحتجاجات في الوطن العربي، تحديدًا في كل من السودان والجزائر وبشكل جزئي العراق ولبنان، حيث طغت المطالب الإصلاحية على خطاب الشارع المحتج

ولعل الثنائية نفسها، طغت على معظم التنظير ضد الاستبداد في الوطن العربي، حتى أن مفهوم الثورة اُستخدم جزافًا لوصف أنماط متباينة جدًا من التغيير، بما في ذلك انقلابات عديدة، في مصر وليبيا وسوريا.

اقرأ/ي أيضًا: الفعل السياسي غير الإقصائي كضرورة لاستكمال التغيير

على العموم، فإن وصف الثورة، لاحق موجة الاحتجاجات الشعبية التي عمت الوطن العربي منذ نهاية عام 2010، وتم استخدامه لوصف الاحتجاجات في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، في الخطاب الإعلامي والسياسي وحتى الأكاديمي. أما في الموجة الثانية من احتجاجات الربيع العربي، فقد بدا أن هناك حذرًا أكثر من إطلاق وصف الثورة على ما يحدث، فتمت الاستعاضة بمفاهيم مثل "الانتفاضة" و"الحراك"، إلخ.

وفي حين انقسمت الموجة الأولى من احتجاجات الربيع العربي في التصور العام إلى نموذجين، نموذج تونسي ناجح، ومصري فاشل، وبينهما أنماط عديدة انتهت إلى صراع عسكري، فإن النموذج التونسي على عكس التجربة المصرية، بدا وكأنه يمثل الحالة الإصلاحية، من ناحية التسوية مع أجزاء من النظام القديم، والمساومة السياسية وتقديم تنازلات، وتنظيم جلسات اعتراف علنية للضحايا ضمن الدور المهم الذي تم وضعه لهيئة الحقيقة والكرامة.

كان نجاح تجربة تونس ملهمًا على ما يبدو للموجة الثانية من الاحتجاجات في الوطن العربي، تحديدًا في كل من السودان والجزائر وبشكل جزئي العراق ولبنان، حيث طغت المطالب الإصلاحية على جزء من خطاب الشارع المحتج، وتبلور شعور جمعي بأن الانتقال الديمقراطي، يتم من خلال مسار من العدالة الانتقالية، وبمساهمة أجزاء من النظام القديم، وليس ضمن "لحظة ثورية" سحرية وفارقة، على قطيعة نهائية مع الماضي.

في الحالة الجزائرية، ورغم الدور الغامض للمؤسسة العسكرية، وفرض خيار الانتخابات مع مقاطعة شاملة تجاوزت الستين بالمئة، دون أن يقدم الحراك ممثلًا له، لا في الانتخابات ولا في غيرها، إلا أنه كان واضحًا تبلور تلك النزعات الإصلاحية، حتى في بعض المطالب التي رفعها المحتجون ضد الانتخابات أو في مسيرات الجمعة الأسبوعية التي تلت فوز الرئيس الجديد، عبد المجيد تبون، حيث كان هناك شروط واضحة، على غرار تهييء ظروف لانتخابات عادلة، وإنشاء سلطة انتخابات مستقلة فعلًا. وحتى مطلب إسقاط النظام، فقد كان مطلبًا إصلاحيًا كما يرى عزمي بشارة، من ناحية أن الناس لم ترد إسقاط النظام، وإنما طالبت النظام بإسقاط نفسه. أما بعد الانتخابات، فقد رفعت الاحتجاجات مطالب للضغط على الرئيس الجديد، من أجل إطلاق سراح المعتقلين، ووقف حملة انتهاك الحريات.

لم تكن تلك الضغوط عبثية. على سبيل المثال، ورغم أن خطوة محاكمة الوزراء ورجال الأعمال، جاءت على عجل في مشهدية مدروسة قبل الانتخابات، وفي ظروف رآها جزء من الجزائريين غير دستورية، غير أن الأهم هو شعور النظام الجزائري أن هناك حاجة لاكتساب شرعية، ولإعطاء الخيار الانتخابي مصداقية، وهو ما حاول القيام به من خلال محاكمة جزء من "العصابة". وهي خطوة مهمة في مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد. كما أن حاجة الرئيس تبون للشرعية أمام الحراك المستمر، دفعته لإطلاق سراح جزء من المعتقلين.

لا يُمكن أن يتوقع الشارع من الإصلاحات التي يقوم بها النظام أو أطراف معتدلة فيه أن تكون حقيقية وشاملة، ولو كانت كذلك، لما صح وصفهم بأنهم جزء من النظام القديم، ولكانوا جزءًا من الشارع المحتج. لكن هذا لا يعني أن تلك الإصلاحات بلا أهمية، وعلى العكس، فإن تجارب الانتقال الديمقراطي في أمريكا اللاتينية وأفريقيا ومناطق أخرى من العالم، تخبرنا بأن تلك الإصلاحات، رغم أنها تمثل مجرد محاولات من السلطة لكسب الشرعية، غالبًا ما كانت المرحلة الأهم في مسار العدالة الانتقالية.

والأهم بالنسبة للاحتجاجات في تلك المعادلة، هو توفير الظروف الملائمة، مع المزيد من الضغوط، التي تدفع النظام لتقديم مزيد من التنازلات، وتجعله في حالة بحث مستمر عن الشرعية، أما القطيعة الشاملة مع كل أطرافه، فتبدو في كل تلك التجارب أقل جدوى، إن كان لها جدوى أصلًا.

في الحالة السودانية، يبدو التفاوض مع النظام القديم أكثر وضوحًا، مع وجود ممثلين للحراك من اللحظة صفر. حيث مالت قوى الحرية والتغيير، إلى التفاوض مع المؤسسة العسكرية، عقب عزلها للرئيس السابق عمر البشير، بعد احتجاجات شعبية واسعة. ولقد كان المسار إصلاحيًا من لحظة مبكرة، رغم العنف الممنهج، الذي مارسته المؤسسة العسكرية، ما تجلى بأوضح وأبشع صوره في واقعة فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم.

وكان قبول التفاوض مع أطراف في الجيش، بحد ذاته تنازلًا كبيرًا، وتسوية فارقة من قبل ممثلي الحراك الشعبي، ورغم أنها لاقت رفضًا من بعض الأوساط، إلا أن قبول جزء واسع من الشارع لها، رغم دموية المؤسسة العسكرية، وغياب الثقة الكاملة فيها، يشي بتبلور وعي إصلاحي غير مسبوق عربيًا.

وفي الحالتين، يبدو أن الأجزاء القديمة من النظام، وهي تمثل الجيش، حاولت العودة بشرعية جديدة، نتيجة نوع من الإنكار لعلاقتها القديمة مع النظام، وكأنها جزء من المرحلة الجديدة، وهي سردية رغم ما فيها من تحريف، مهمة من أجل وضع النظام في سياق الاضطرار إلى تقديم إصلاحات من أجل كسب المصداقية، والمحاولة الدائمة للتلاؤم مع الواقع الجديد.

اقرأ/ي أيضًا: مساءلة جزائرية تأخرت "قليلًا"

في لبنان والعراق، يبدو الواقع أكثر تعقيدًا مع نظام ديمقراطي توافقي قائم على المحاصصة الطائفية، حيث لم يبرز ممثلون عن الاحتجاجات حتى الآن، غير أن النقاشات الجارية، تبدو بوضوح نقاشات إصلاحية أيضًا. خاصة فيما يتعلق بقوانين الانتخابات التي يتم اقتراحها، أو شكل الحكومة المطلوب. حيث يتضح وجود إدراك جمعي، بأن إصلاح النظام الانتخابي وتحييد المحاصصة الطائفية، يتمان من خلال إجراء مراجعة لآليات عمل النظام نفسه. ويبقى أن يتم تتويج الخطاب الإصلاحي للمحتجين، من خلال ممثلين للشارع يفاوضون النظام على خطوات واضحة.

الدور الأهم للاحتجاجات في العملية الإصلاحية، هو توفير الظروف الملائمة، مع المزيد من الضغوط، التي تدفع النظام لتقديم مزيد من التنازلات، وتجعله في حالة بحث مستمر عن الشرعية

ما هو ظاهر جليًا في الموجة الجديدة من الاحتجاجات العربية، أنها موجات انتقال ديمقراطي، وليست مجرد صرخات ثورية لإسقاط الأنظمة، بمعنى أن ثمة مركزية يكتسبها مفهوم العدالة الانتقالية وكذا الإصلاح، تأخد مكانًا واسعًا في تلك الاحتجاجات، حتى أن المنتبه سيجد تشابهات هائلة بين ما يحدث في الوطن العربي في هذه الأيام، وبين ما حدث في دول عديدة من العالم في العقدين الأخيرين من القرن الماضي.



اقرأ/ي أيضًا:

تنظيم الدولة المصرية

أسبقية الوطني على الأيديولوجي