31-مارس-2023
 (Getty) نشطاء محاصرون بالشرطة في بلدة لوتسيرات الألمانية

(Getty) نشطاء محاصرون بالشرطة في بلدة لوتسيرات الألمانية

النزعة البيئية في أوروبا هي أجمل ما وصل اليه الإنسان منذ قرون، يتعلق الأمر بالدفاع عن الكوكب الأزرق؛ الأرض. هي نزعة تشبه النزعة الوطنية في بلدان العالم الثالث التي تجاهد لتعيش بعيدًا عن التطرف القبلي والطائفي والإثني.

أصبح الخطر البيئي حقيقة لا ينفع معها مزيد من تبلد المشاعر واللامبالاة، فكل شيء في ألمانيا مثلًا يوحي أننا بدأنا ندفع الثمن، وأننا كلنا معنيون، وأن ما يحدث في أوروبا تدفع ثمنه أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، كما أن ما يحدث في أفريقيا سندفع ثمنه هنا في أوروبا شئنا أم أبينا: ارتفاع اسعار، ارتفاع درجات الحرارة انخفاضها أيضًا، سيول وجفاف في نفس الوقت، أوبئة وضعف مناعة.

ليست مفارقة أبدًا أن أحد أغنى الأغنياء في تاريخ الكوكب يملك ربع تريليون دولار، وفطوره اليومي قطعة خبز وربع ملعقة لبنة بدون زيت، فما الحاجة إلى كل هذا المال؟

مع ذلك تتراجع حكومات أوروبا عن التزاماتها في خفض درجات الحرارة بمعدل درجة ونصف بحلول 2030 بسبب ضغط أصحاب الاحتكارات والمصانع، هؤلاء الذين يهمهم الحفاظ على مستوى من الأرباح لرفاهيتهم ولتحقيق مستويات عالية من تراكم رأس المال، لكن ماذا سيفعلون بهذه الأرباح؟  هل سيعيشون إلى الأبد، وهل سيتناولون بدل اللحم والجبن لحمًا من الذهب أو جبنة من الألماس؟

ليست مفارقة أبدًا أن أحد أغنى الأغنياء في تاريخ الكوكب يملك ربع تريليون دولار، وفطوره اليومي قطعة خبز وربع ملعقة لبنة بدون زيت، كما نقل عنه بعض العذّال الغيورين.

لنعد إلى موضوعنا. حسنًا لدينا أزمة، رجال الصناعة لا يبالون ورجال السياسة خاضعون، هناك طرف واحد يشعر بالكارثة، إنهم نشطاء البيئة هؤلاء رسل الطبيعة وصوت المستقبل.

لكنك في ألمانيا يمكنك الاحتجاج بالكلام فقط ومن منزلك عبر حسابك الشخصي على اليوتيوب أو التيك توك، أو عن طريق إطلاق حملات الكترونية لجمع التواقيع، ليس أكثر من ذلك، أما إذا نزلت إلى الشارع للاحتجاج فتحتاج إلى تصريح من الشرطة، حسنًا. لكن الشرطة ستكسر رأسك لو حاولت الاقتراب من أي مصنع أو مكان ما لمنع نشاط صناعي يسبب تلوثًا في البيئة.

هذا هو القانون. إنه القانون "العادل" الذي يسمح بتلويث البيئة.

الصراع يتصاعد وعنف الشرطة مفرط

الصراع مستمر بين نشطاء البيئة في أوروبا، وألمانيا خصوصًا، وبين أجهزة السلطة التي تحمي بالطبع رجال المال والأعمال، وهو صراع يتصاعد نوعيًّا وكميًّا.

نوعيًّا عبر ابتكار اساليب للنضال السلمي غير تلك التي عرفناها في العقود المنصرمة، حيث كان نشطاء البيئة يرفعون الأعلام واللافتات ويحاصرون بمراكبهم سفن صيد الحيتان، أو يمنعون حفارات الفحم من أعمال الحفر، إلى اساليب جديدة اقتحموا بها شوارع المدن الألمانية، حيث يعمد عدد من النشطاء والناشطات إلى إلصاق انفسهم بإسفلت الشوارع بواسطة مواد لاصقة قوية مما يعرقل حركة السير أحيانًا لساعات، سيقول بعض القراء إنه عمل مزعج أيضًا يؤخر الناس عن أعمالهم، لكن لنتأمل في أسباب هذا الاحتجاج المزعج وفي نتائجه، إن أسبابه يعرفها الجميع: التلوث وارتفاع درجات الحرارة والجفاف والسيول.. هذه أسباب يعرفها الجميع ويقرأون عنها في الصحف والمجلات، أو يتابعونها بشكل عابر في قنوات التلفزة. لكن نتائج هذه الاحتجاجات البيئية المعرقلة لسير المركبات هي أن مزيدًا من الاهتمام سيفرضه علينا هؤلاء الشبان لننضم إلى مجموعات النضال البيئي، أو على الاقل لنكون أقل اكتراثًا بآلام أمنا الأرض.

نتأخر عن العمل نتيجة احتجاج بيئي هو إنذار لنا جميعًا أن أصحاب المصانع "يخططون" لقتلنا برفع درجات الحرارة أو بالاختناق.

أن يموت واحدنا في يوم ما نتيجة الحرارة المرتفعة، أو نتيجة انجراف منزله في السيول هو أسوأ بمليون مرة من التأخر عدة ساعات عن العمل.

نعم إن السيول التي جرفت مئات المنازل في ألمانيا، قبل عامين، كانت نتيجة مباشرة للخلل البيئي الذي تسببت به الانبعاثات الغازية غير المنضبطة التي تبثها مصانع الرأسماليين الجشعين، الذين لا يهتمون بشيء أو أحد سوى الربح ومزيد من الأوراق النقدية.

تحدثنا عن أساليب جديدة للنضال البيئي والصراع من أجل هواء نقي وحرارة معتدلة، الآن نتحدث عن ارتفاع مستوى العنف من قبل الشرطة.

من المفهوم أن تدافع الشرطة عن أمن وسلامة الناس المواطنين، ومن المفهوم أن الشرطة تاريخيًّا في كل مكان تنحاز أو ترضخ لضغط مالكي رؤوس الأموال وأصحاب السلطة من أي نوع كانوا، بعض المنظرين الماركسيين يقولون إن أجهزة السلطة، مثل الشرطة والأمن والاستخبارات، إنما أوجدها أصحاب المال لغاية أساسية هي حمايتهم وحماية عوائلهم ومصانعهم وأملاكهم، أي أن أجهزة الحماية والأمن ليست سوى أدوات لخدمة الأقوياء ولردع الفقراء والضعفاء، ولاحقًا أصبحت أداة تمنع من تطور نزاعات الأقوياء أنفسهم إلى مرحلة خطرة.

إذا كان ما سلف صحيحًا وحقيقيًّا فمن الطبيعي أن تتدخل الشرطة لتفريق اعتصام يمنع شركة ما من تنفيذ أعمالها.

الموت في سبيل الحرية كالموت في سبيل هواء نقي وحرارة معتدلة

ماذا قالت المتحدثة باسم مجموعة الناشطين التي تحمل اسم "تحيا لوتسيرات" قبل مدة؟ لقد وجهت اتهامات خطيرة للشرطة، وقالت "إنه كان هناك مستوى لا يُصدق من العنف الشرطي خلال المظاهرة أمس"، موضحة أنه تم نقل أحد الأشخاص من صفوف المتظاهرين إلى المستشفى في حالة خطيرة. ووصفت إجراءات الإخلاء بأنها قاسية، وقالت: "إنها معجزة أنه لم يكن هناك قتلى هنا". ومن جانبها ترفض الشرطة هذا الاتهام وتؤكد أنها تتخذ أعلى درجات الحذر في إجراءاتها".

السيول التي جرفت مئات المنازل في ألمانيا، قبل عامين، كانت نتيجة مباشرة للخلل البيئي الذي تسببت به الانبعاثات الغازية غير المنضبطة التي تبثها مصانع الرأسماليين الجشعين

الحقيقية بعد قراءة هذه الكلمات لا يعرف واحدنا -وهو القادم من بلد نظامه إرهابي هاربًا بجلده إلى بلد كان يظنه بلد القانون والعدالة الأكبر في أوروبا والعالم- ماذا يقول، ويزداد الحال سوءًا مع شخص لاجئ وقع على عريضة منع توسيع أعمال التعدين في قرية لوتسيرات، لسان حاله يقول نفدنا بجلدنا، هربنا من الاسد المجرم لنموت على يد الشرطة الألمانية، هذا يعني عمليًّا أن النضال من أجل الحرية أصبح يساوي النضال من أجل البيئة، من حيث الثمن الذي على الناشط دفعه أثناء ذلك، وهذا يعني أن هذا العالم تحكمه أنظمه لا تعرف الرحمة، سواء كانت مهددة بالسقوط نتيجة ثورة أو حرب أو "مهددة" من نشطاء بيئيين.

إعلام ألماني باللغة العربية منحاز

أخيرًا نتحدث عن انحياز بعض وسائل الإعلام إلى صف الشرطة والسلطة وأصحاب المصانع المتهمين بتلويث الهواء والماء.

وصلت الأمور مؤخرًا إلى درجة احتمال موت بعض النشطاء جراء العنف المفرط لأجهزة الشرطة. لكن أليس غريبًا أن بعض وسائل الإعلام الأكثر انتشارًا في أوروبا تغطي وتحمي سلوك الشرطة العنيف، تجاه محتجين سلميين يرفضون توسيع اعمال شركة لتعدين الفحم؟

حسنًا لنقرأ الخبر الذي وضعه موقع دويتشه فيله العربية لحادثة الاعتداء على المعتصمين في قرية لوتسيرات الالمانية؟ ماذا نفهم من هذا العنوان: "إخلاء قرية لوتسيرات، عشرات الإصابات بصفوف الشرطة الألمانية"؟

يركز العنوان على الشرطة، وليس على الحدث، وليس على الفاعلين في الحدث! وعند قراءة الخبر نعرف السبب وهو أن الشرطة واجهت المعتصمين السلميين بطريقة عنيفة كادت تكون مميتة بالنسبة لبعض المحتجين.

في هكذا حدث- حادثة غريبة في بلد حضاري ديمقراطي بلد قانون.. لا يمكن لاي صحفي نزيه إلا أن يكتب عنوانا له كالتالي: "عنف مفرط (أو عنف غير مسبوق في المانيا) من الشرطة". أما إذا كان الصحفي أو الصحيفة منحازة إلى جهة الأقوى فالأمر يختلف عندئذ.

الخبر والعناوين ذات الصلة تجعلنا ندرك أن المعتصمين على حق في موقفهم المعارض لاستخدام الفحم، فالتلوث يكاد يدمر بيئة أوروبا والعالم.

على سبيل المثال، قتل خمسمئة شخص في إسبانيا وحدها خلال صيف 2022 المنصرم، بسبب موجة الحر، واحترق أكثر من نصف مليون هكتار من غابات أوروبا في العام نفسه بسبب الجفاف والحر الشديد.

بالعودة إلى خبر دويتشه فيله والتلاعب في صياغة العنوان؛ شخصيًا أتمنى ألا تصل إلى مستوى منابر وقنوات الأنظمة في العالم الثالث، تلك الناطقة باسم السلطة عمومًا، وباسم السلطة الأقوى في أي نظام، أي الشرطة أو المخابرات، لأن هذه ستكون كارثة جديدة لأوروبا.