10-ديسمبر-2016

مسنة تموت على كرسي متحرك بحلب (فيس بوك)

سهلة تطلع الروح، ولا مجال للفرار من الموت القادم مع كل هذا الحميم المصبوب على الحي، والموت لا يوجع الموتى كما قال محمود درويش، وهنا في حلب الشرقية مات الناس من سنوات، ماتوا من اشتهاء الموت العادي.

على هذا الكرسي القبر، ثمة عجوز تودع الأرض وفمها إلى السماء، ترى ما الذي كانت تقوله لمن يستل روحها، وما كانت آخر كلماتها لله الذي يسكن فوق. أشكت أحدًا إليه؟ أم أنها كانت تتوسل الموت منه؟

في حلب الشرقية التي تستعد للرحيل ثمة من يموت دون أدنى ألم أو رجفة، وثمة من يتمنى الموت كل ثانية ولا يأتيه

وحيدة في شارع صامت مدمر، على الناصية يبدو أن أحدًا اعتنى بروحها فدفع الكرسي بعيدًا عن وسط الطريق. امرأة مستلقية وسط الخراب بلا روح، ولا أمنيات بقبرٍ أو غطاء ترابي دافئ. هو الموت الذي تغطيه ريح الصلف البشري.

أحدهم ألقى بردائه الصوفي فوق العجوز الميتة عساه يستر جسدها أو يعتني بها في هذا الطقس البارد، ولكن في أعماقه يدرك صاحب الرداء أن لا شيء يوجع الميت. إنما هي الروح التي تمشي في أجساد الأحياء فتخدعهم.

هنا في حلب الشرقية التي تستعد للرحيل ثمة من يموت دون أدنى ألم أو رجفة، وثمة من يتمنى الموت كل ثانية ولا يأتيه، والبعض يستجمع موته قطعة قطعة من أجل موت كبير، والمدينة الأقدم في العالم ما زالت تحبو باتجاه الريح. كم كان جميل موت روما والممالك الزائلة.

اقرأ/ي أيضًا: خسرنا النصر

تفتش امرأة بصراخها عن بقايا جسد في جب القبة حيث توزعت الأعضاء على مساحة واسعة، ولا يد ترد الصراخ. لا رأس يلتفت إلى أمه حتى لو كان منفصلًا بعيدًا، ولا أقدام كانت تسعى بفرح. والأم تصرخ فلا يرد سوى الصدى المرتد من الجدران المحطمة.

على ركام البناء الذي تداعى إلى الأسفلت يبكي الرجل من ناموا موتى تحته، ولا أحد يستطيع منحه فرصة دفن الأشلاء برفق في البيت أو الحديقة أو حتى في الرصيف المقابل، هو فقط يحاول أن يرى وجه ابنه المسحوق أو حتى بيجامة نومه الأخير.

العجوز السورية ربما قبل موتها بقليل أصرت على من حولها بعدم إخراجها من بيتها الآيل للدمار. هم جميعًا يريدون موتًا واحدًا على أسرّتهم

هنا في هذه الأحياء الدافئة، سوريون بسطاء مثل الغالبية العظمى من أبناء هذا الشعب، يشبهون كثيرًا سكان الحواري الواطئة في دمشق القديمة وجوار الجامع الأموي، نفس البيوت والأسواق، واللباس ولذة الطعام، وحتى رائحة الطين المغمس بالقش في الشتاء تفوح من تلك الحواري الأصيلة، ولكنهم اليوم يخرجون حاملين معهم قيح السنوات الأخيرة القصيرة ورائحة دم.

العجوز الميتة ربما قبل موتها بقليل أصرت على من حولها بعدم إخراجها من بيتها الآيل للدمار على شاكلة كل من هم في عمرها. هم جميعًا يريدون موتًا واحدًا على أسرّتهم التي حملت أجسادهم عقودًا، وفي بيوتهم التي بنوها بالسهر والتعب، ولكن أحدًا لم يستمع إليها. ربما قالوا لها أيام ونعود، أو لن نغادر بعيدًا، لكنهم خدعوها بالحياة.

الكرسي القبر. قبرنا المتنقل من جسد لآخر، ومن مكان لسواه. قبرنا الذي لا مفر منه سوى إلى الانعتاق. ربما بطلقة في الرأس، أو موت بعيد في منفى بلا ذاكرة.

اقرأ/ي أيضًا:
حلب.. معركة الأرض المحروقة
منسقة العفو الدولية.. كلنا شركاء في مذبحة حلب