30-يوليو-2019

جرافيتي تضامنًا مع إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام في نيسان/أبريل 2019 (مواقع التواصل الاجتماعي)

يعتبر الإضراب عن الطعام وسيلة من وسائل المقاومة السلمية التي يتبعها سجين أو مجموعة سجناء بغرض تحسين ظروف سجنهم أو لأسباب أخرى احتجاجية على أحكام يرونها باطلة وجائرة، أو للضغط على السلطات لتلبية مطالب أو الاعتراف بحقوقهم ولفت النظر إلى قضاياهم.

الإضراب عن الطعام موتٌ بطيء لجسد المُضرب، يستخدمه وسيلة أخيرة للنجاة من موتٍ بطيء آخر يتعرض له في المعتقل

ظروف هذه الطريقة من المقاومة ليست بالأمر الهيّن، فقد يتعرض المضرب للكثير من الضغوطات النفسية وحتى العنف الجسدي لإجباره على كسر إضرابه، لما لهذه الوسيلة من القدرة على الضغط وإظهار حالة المضرب على العلن وإيلائها الأهمية، إذ يلاقي المضربون عن الطعام في السجون والمعتقلات، الكثير من التضامن والمناصرة في سبيل دعم قضيتهم وتلبية مطالبهم.

اقرأ/ي أيضًا: مصطفى الأعصر يضرب عن الطعام في المعتقل احتجاجًا على "القتل البطيء"

وفي صيف العام 2019، دخل الزميل الصحفي المصري مصطفى الأعصر إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، احتجاجًا على استمرار حبسه احتياطيًا منذ نحو عام ونصف، ولسوء المعاملة والإهمال الطبي الذي يتعرض له هو وزملاؤه، ما تسبب في موت أحد زملائه في الزنزانة، وهو المعتقل عمر عادل.

مصطفى الأعصر
دخل الصحفي المصري المعتقل مصطفى الأعصر إضرابًا مفتوحًا عن الطعام

ويُعد الإضراب عن الطعام فرصة أخيرة يلجأ إليها المعتقل، رغم خطورتها الحقيقية على حياته؛ فالإضراب عن الطعام موتٌ بطيء لجسد المُضرب، يستخدمه وسيلة أخيرة للنجاة من موتٍ بطيء آخر يتعرض له في المعتقل.

وكثيرًا ما استخدم الإضراب عن الطعام كوسيلة ضغط احتجاجية. ويُعد أول إضراب عن الطعام موثق في العصر الحديث، الإضراب الذي دخلته الناشطة البريطانية ماريون دونلوب، عام 1909، للمطالبة بالاعتراف بحق المرأة في التصويت في الانتخابات. 

الهند وأيرلندا.. من الفعل الفردي إلى الاحتجاج الجماعي

لم يكن الإضراب عن الطعام بغرض الاحتجاج السياسي فقط، بل حملت هذه الممارسة أهدافًا أخرى يمكن اعتبارها فردية، لكنها تتضمن منطق الاحتجاج عينه. لقد ظهر في أيرلندا القديمة من أجل أمور جنائية، حيث إن الامتناع عن الأكل اُستخدم في أيرلندا ما قبل المسيحية، وذلك من خلال امتناع الضحية عن الأكل، وجلوسه أمام منزل الجاني بهدف اللعب على مشاعره وإثارة الشفقة، وذلك للضغط عليه من أجل الاعتذار أو رد الديون.

نفس الأمر ساد في الهند قديمًا، غير أن فعل الإضراب عن الطعام هناك سيعرف تحولًا مهمًّا، وسينتقل من الأفعال الفردية التقليدية إلى فضاء الاحتجاج السياسي، وذلك بدخول الاستعمار البريطاني إلى الهند واحتلاله لأرضها، ووقوع العديد من الهنود كأسرى وتعرضهم للتعذيب في سجون الاحتلال.

ماريون دونلوب
البريطانية ماريون دونلوب، صاحبة أول إضراب عن الطعام موثق في العصر الحديث

 كانت صيغة الإضراب عن الطعام في الهند في تلك الفترة من إبداع المناضل الشهير المهاتما غاندي، والذي يمكن اعتباره من أوائل من اتبعوا منهج الإضراب للمطالبة بالحقوق، كما وأنه رفع مطلب استقلال بلاده وخروج الاحتلال منها عبر إضرابه لفترات متتالية.

قدّم غاندي إضرابه على أنه شكل من أشكال المقاومة السلمية للاحتلال، والتي من شأنها إحراج السلطات البريطانية  أمام الرأي العام. تزايد عدد المضربين عن الطعام من أعضاء المقاومة الهندية الذين تم سجنهم، ومنهم من توفي جراء إضرابه الذي كان يستمر لمدة تتجاوز 100 يوم.

وبالعودة إلى أيرلندا، فالأيرلنديون أصحاب إرث الإضراب عن الطعام لهدف احتجاجي فردي، حوّلوه من احتجاج فردي ضد مظلومية مجتمعية أو شخصية، لاحتجاج سياسي بهدف الضغط على البريطاني الذي منع لوقت طويل قيام الجمهورية الأيرلندية، وقام بسجن أعضاءٍ من المقاومة في السجون البريطانية على أنهم مجرمين ومخربين. 

لكن المقاومة نظمت إضرابًا عن الطعام للاعتراف بهم معتقلينَ سياسيين. ولقي العديد من المضربين حتفهم في السجون بسبب التعذيب فضلًا عن الإضراب نفس، الأمر الذي حرّك الرأي العام في وجه السياسات البريطانية، مهيئًا لقيام جمهورية مستقلة.

وفي الهند مرة أخرى، يُذكر إضراب الناشطة تشانو إيروم شارميلا من إقليم مانيبور، كأحد أبرز الإضرابات عن الطعام في العالم، كونه واحدٌ من أطول الإضرابات عن الطعام في القرن الحالي، وكان احتجاجًا على قوانين عسكرية تسمح للقوات المسلحة بإلقاء القبض على أي مشتبه به في المناطق التي تشهد عنفًا واضطرابات.

الإضراب المتسلسل

تُعد تجربة إضراب أفراد المقاومة الأيرلندية من التجارب الملهمة للكثير من السجناء السياسيين وأصحاب الحقوق في العالم، كما يعود لهم فضل كبير في نقل النقاش حول الإضراب عن الطعام من القضية الأيرلندية إلى سياقات وأبعاد سياسية عالمية، لا سيما مع التضحية  التي قدمها سجناء المقاومة أثناء خوضهم الإضراب عن الطعام سنة 1981.

وقد ابتكر الأيرلنديون الإضراب المتسلسل بهدف استمرار ممارسة الإضراب الاحتجاجية أطول فترة ممكنة، فكان الواحد يدخل إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، وإذا لم تتحقق المطالب ومات نتيجة إضرابه، انتشر الخبر بين الرأي العام وخلق دوافع جديدة للاحتجاج، ليقوم سجين آخر بالإضراب عن الطعام، وهكذا، ليعطي الإضراب المتسلسل ديمومة لقضية السجناء ويبقيها حيّة.

بوبي ساندز
المناضل الأيرلندي بوبي ساندز، الذي قضى نحبه بعد 66 يومًا من الإضراب عن الطعام في السجون البريطانية

وتحدى المضربون عن الطعام الأيرلنديون عبر إضرابهم التسلسلي، رئيسة وزراء بريطانيا في ذلك الوقت، مارغريت تاتشر، التي رفضت تقديم أي تنازل أو انصياع للأسرى المضربين.

ومن أوائل من قضوا نحبهم كان السجين السياسي والمناضل بوبي ساندز، بعد مضي 66 يومًا على إضرابه، وتبعه عدد من رفاقه. خلق موت ساندز ومتابعة رفاقه للإضراب، تعاطفًا كبيرًا مع القضية الأيرلندية وصار اسمه دليلًا على هذا الشكل من المقاومة.

تاريخ طويل للإضراب عن الطعام في فلسطين

موت بوبي ساندز الجسديّ ألهم العديد من المناضلين حول العالم، وصارت تجربة الشاب المقاوم صاحب الـ27 ربيعًا، تجربةً ملهمة لمعتقليّ رأيّ وسجناء سياسيين ومقاومين من حول العالم. 

ولعل أبرز هؤلاء، المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. ولدى الأسرى الفلسطينيون تاريخ طويل من الإضرابات التي غيّر بعضها من شروط وظروف المعتقلين في العديد من سجون الاحتلال. 

ويعود تاريخ أول إضراب عن الطعام في فلسطين إلى عام 1969 في سجن الرملة. وتضامن مع هذا الإضراب معتقلون في سجن كفار يونا، وكان بهدف المطالبة بتحسين ظروف الاعتقال والسماح بإدخال أوراق وأقلام لكتابة الرسائل للأهل.

ومن بين أبرز الإضرابات عن الطعام للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، إضراب سجن نفحة في عام 1980. ويعتبر هذا الإضراب الأشرس والأكثر عنفًا من جهة رد فعل سلطات الاحتلال، إذ جُمع الأسرى في ظروف قاسية جدًا، وزُج بأعدادٍ كبيرةٍ منهم في غرفة واحدة كانت تفتقر إلى الهواء، كما حُرم بعضهم من الكتب والقرطاسيّة، وسُمح لهم بساعة واحدة يوميًّا فقط من أجل الفسحة في ساحة السجن.

وفي العديد من الإضرابات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بما فيها إضراب سجن نفحة عام 1980، استعملت السلطات الإسرائيلية أساليب قسرية لكسر الإضراب، مثل استخدام خراطيم بلاستيكية تدفع لمعدة الأسير من خلال فتحة الأنف.

معركة الأمعاء الخاوية

 في السنوات القليلة الماضية عرف العالم اسم خضر عدنان، الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال الإسرايلي، والذي اعتقل عام 2011. 

خاض الأسير إضرابًا فرديًّا عن الطعام، لتبدأ ما عُرفت بمعركة الأمعاء الخاوية، التي انضم إليها عدد كبير من الأسرى في سجون الاحتلال، ممن يعانون من ظروف سجن سيئة ويتعرضون للتعذيب والإهانة، دون أن تذكر في حقهم تهم واضحة.

خضر عدنان
الأسير الفلسطيني خضر عدنان أثناء إضرابه عن الطعام الذي استمر 66 يومًا

تبع ذلك الإضراب، إضرابَ الأسرى التدريجي عام 2012، حيث خاض الأسرى الفلسطينيون عددًا كبيرًا من الإضرابات الفرديّة والجزئيّة، فمثلًا تمّ توثيق 62 إضرابًا عن الطعام بين عامي 2011 و2012، توزعت في سجون: ريمون، نفحة، عسقلان، عوفر، النقب، وغيرها من السجون الإسرائيلية المعروفة بقسوة ظروف الاعتقال فيها. 

ثم تلاها إضراب الأسرى الإداريين في عام 2014، حيث أضرب ما يقارب 120 أسيرًا فلسطينيًا، عن الطعام، في معتقلات عدة، احتجاجًا على الحبس الإداري، أيّ التوقيف من دون تهمة ولا محاكمة.

وانضم إلى هؤلاء الأسرى المضربون عن الطعام، عشرات الأسرى الإداريين في خطوة تضامنية مع معركة تحصيل الحقوق وتحسين الأوضاع، حتى تجاوز عدد المضربين عن الطعام 220 أسيرًا.

وشهدت بعدها الحركة الأسيرة ما عُرف بـ"إضراب الحرية والكرامة" وهو إضرابٌ مفتوح عن الطعام أُعلن عنه في يوم الأسير الفلسطيني (17 نيسان/أبريل) من عام 2017، استمر لمدة 40 يومًا، وانضم إليه العديد من الأسرى في سجون مختلفة، وكان الغرض منه استعادة الحقوق التي سلبتها إدارة سجون الاحتلال. وعُرف في قيادة هذا الإضراب الأسير مروان البرغوثي.

في نيسان/أبريل الماضي، شرع قرابة 1500 أسير فلسطيني إضرابًا مفتوحًا عن الطعام والماء، في سجني ريمون والنقب، في معركة أطلقوا عليها اسم "معركة الكرامة 2"، وانضمت إليهم دفعات متتالية من الأسرى في مختلف سجون الاحتلال، وسط رفض وتعنت السلطات الإسرائيلية في الاستجابة لمطالب المعتقلين.

إضرابات مختلفة في مصر وسوريا والمغرب

عرفت دول عربية أخرى مثل مصر والمغرب وسوريا العديد من الإضرابات عن الطعام، خاصة من قبل معتقلين سياسيين.

ومنذ عام تقريبًا خاض معتقلو حراك الريف المغربي إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، وكان على رأسهم قائد حراك الريف ناصر الزفزافي، وذلك من أجل تحسين ظروف الاعتقال والاعتراض على الحبس الانفرادي. 

وفي نيسان/أبريل الجاري، أعلن الزفزافي بدء إضرابٍ جديدٍ عن الطعام، احتجاجًا على الأحكام الصادرة بحقه، واحتجاجًا على ما أسماها العسكرة التي شهدتها منطقة الريف في الفترة الماضية.

وفي سوريا، خاض عدد من المعتقلين في سجن حماة المركزي، العام الماضي، إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، بسبب أحكام صادرة عن محاكم ميدانية، تقضي بإعدام 11 معتقلًا بتهمة التظاهر في عام 2011، وتهم أخرى صادرة عن محكمة الإرهاب، تتراوح ما بين المؤبد والإعدام.

وفي مصر أيضًا، تشهد السجون حالات متزايدة من الإضراب عن الطعام، خاصة في السنوات الأخيرة، مع زيادة أعداد المعتقلين، وزيادة حالات الحبس الاحتياطي لفترات طويلة دون محاكمة.

ومن بين أبرز تلك الإضرابات، إضراب معتقلي سجن العقرب شديد الحراسة في 2016. وعلى الرغم من أنه لم يكن إضرابًا منظمًا، ومتفق عليه بين كل المعتقلين، إلا أنه تحول لإضراب جماعي نتيجة سوء المعاملة التي تعرض لها المعتقلون في مصر.

كما كان من بين أشهر الإضرابات عن الطعام في مصر، في السنوات الأخيرة، إضراب المعتقل محمد سلطان، والذي انتهى بالإفراج عنه وتسليمه للولايات المتحدة (يحمل الجنسية الأمريكية) مقابل تنازله عن الجنسية المصرية.

إضرابات منسيّة

تعتبر حياة المعتقلين في سجون القوات الإماراتيّة في محافظة عدن جنوب اليمن، وتحديدًا في سجن بئر أحمد، مهددة بالخطر، فهم يتعرضون إلى أقسى أنواع التعذيب والتنكيل، ما اضطر بعضٌ منهم إلى اللجوء للإضراب عن الطعام للفت أنظار العالم إلى قضيتهم المنسيّة.

يعد معتقلو سجون القوات الإماراتية في اليمن، قضية منسية، ما دفع عددًا منهم للدخول في إضراب عن الطعام للفت أنظار العالم لهم

كذلك كان حال المخرج الأوكراني المحتجز في روسيا، أوليغ سينتسوف، الذي عارض ضم روسيا لمسقط رأسه، شبه جزيرة القرم عام 2014، فحكم عليه بالسجن 20 عامًا بتهمة التآمر لارتكاب أعمال إرهابية؛ إذ لجأ المخرج للإضراب عن الطعام احتجاجًا على الأحكام الصادرة بحقه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سجناء يمنيون يضربون عن الطعام في سجون الإمارات.. محاولة أخيرة للنجاة!

3000 ليلة.. نسوية الحركة الأسيرة