30-نوفمبر-2018

المكتبة الوطنية المغربية (فيسبوك)

منذ أكثر من قرنين، تحدث توماس جيفرسون، أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية، عن أهمية المكتبات العامة، قائلًا في إحدى رسائله: "لطالما اعتقدت أن لا شيء يضاهي في فعل الخير بمال بسيط، من إنشاء مكتبات عمومية صغيرة في كل حي ومقاطعة، بحيث تتألف من عدد قليل من الكتب المختارة بعناية، ليتم إقراضها لسكان البلاد بموجب لوائح تضمن استرجاع الكتب في الوقت المناسب".

تعد المكتبة العامة خدمة حكومية في الدولة الحديثة، مثلها مثل المدرسة والمستشفى والكهرباء والطرق

في الواقع تعد المكتبة العامة خدمة حكومية في الدولة الحديثة، مثلها مثل المدرسة والمستشفى والكهرباء والطرق، يقترض من السلطة أن توفرها لجميع السكان كيفما كانوا وأينما كانوا في رقعة البلاد، لقاء أموال الضرائب.

اقرأ/ي أيضًا: إعادة ترميم أقدم مكتبة في العالم

وعن ذلك تقول منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في بيانها الصادر منذ 1994: "تعلن اليونسكو إيمانها بالمكتبة العامة كقوة حية للتربية والثقافة والإعلام، وعامل أساسي في تعزيز السلام والرفاه الروحي من خلال عقول البشر رجالا ونساء"، مُردفة "ولذا تشجع اليونسكو الحكومات الوطنية والمحلية على دعم المكتبات العمومية والالتزام بتنميتها تنمية فعالة".

وقد اعتُبرت المكتبات العامة خدمة حكومية، كونها لها أهمية حيوية للصالح العام، لأن تثقيف المجتمع وتهذيبه أمر جيد للبلاد بأسرها، ولأن الشرائح الأكثر حرمانًا من السكان تستحق الوصول إلى المعلومات والترفيه وإن لم تكن تملك المال، بدلًا من احتكار العلم والمعرفة عند الأقلية الغنية.

وفي عصر يقوم على اقتصاد المعرفة والعقول، كالذي نعيشه اليوم، تزداد الحاجة إلى أدوار المكتبات العامة في تطوير المستوى المعرفي للمجتمع ككل وتفجير إمكانياته الإبداعية.

واقع المكتبات العامة في المغرب

بحسب وزارة الثقافة المغربية، يحتوي المغرب على 264 مكتبة حكومية، منها 136 مكتبة عمومية، أبرزها المكتبة الوطنية، والخزانة الملكية بالرباط، والمكتبة الوسائطية بمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء. ومع ذلك يبقى هذا العدد ضئيلًا في بلد يصل عدد سكانه قرابة 37 مليون نسمة، ومن ثمة تحرم القرى والكثير من المناطق المغربية من خدمة المكتبة العمومية.

لكن المشكلة ليس فقط في قلة المكتبات العامة، وإنما في وضعية هذه المكتبات التي تنفر المرء من القراءة، فكما سبق أن صرّح إبراهيم اغلان، رئيس قسم الأنشطة الثقافية والتواصل في المكتبة الوطنية، إنه "إذا قمنا بمسح حول مجال المكتبات العمومية في المغرب، نجد أن 90%  منها لا تتوفر على الشروط والمقاييس الموضوعية للقراءة".

إذ إن الكثير من المكتبات العمومية في البلاد تقبع في فضاءات مغلقة وخانقة، ومفتقدة للإنارة الجيدة والمقاعد المريحة، وتغيب فيها فضاءات التنشيط الثقافي ومناقشات الكتب، فضلا عن العاملين الذين يفتقدون لمهارات التدبير المكتباتي والتعامل مع الوافدين القراء، مما يجعل زيارة إحداها رحلة ثقيلة على النفس.

أما بالنسبة لمحتوى هذه المكتبات، فقسم كبير منها ماهي إلا مجرد خزانات بالية للكتب القديمة الرثّة القيمة، وثلة قليلة منها التي تستحق الزيارة، وبسبب ذلك كثيرا ما يعاني الطلاب والباحثون في إتمام دراساتهم.

علاوة على ذلك، لا يزال منظور المكتبة كمجرد "مستودع للكتب" مستمرا في طريقة عمل جلّ المكتبات العمومية المغربية، بينما هي في البلدان المتقدمة مؤسسة اجتماعية ديناميكية، تعمل بحماس على جذب أكبر عدد من القراء، وتستقبل الأطفال في أجنحتها المخصصة لهم، وتساعد الطلاب في اختيار مراجع دراستهم، وتعلم المهاجرين اللغات، كما تقدم العون للوافدين القراء كل حسب حاجته من خلال توجيههم إلى أفضل الكتب التي سبق انتقاؤها بعناية. فضلا عن أنها مزودة بالإنترنت والوسائل التكنولوجية وتتزين بالفضاءات التنشيطية، حيث تعقد فيها المعارض والمناقشات والأمسيات ومراجعات الكتب.

مشكلة القراءة في المغرب

يصعب العثور على إحصائيات دقيقة متفق عليها بشأن معدل القراءة لدى الإنسان المغربي، لكن من خلال ملاحظة عدد مبيعات الجرائد والكتب، يتأكد وجود "أزمة قراءة حادة" عند المغاربة، وكانت صحيفة "La Croix" الفرنسية قد أعدت تقريرًا استقصائيًا قبل شهر عن سوق القراءة بالمملكة، بيّنت فيه الوضع غير المبشر الذي وصل إليه سوق الكتاب محليًا، حيث إن نسبة %64.3 من المغاربة لم يشتروا أي كتاب قطّ خلال سنة 2016.

صحيح أن إصلاح وضعية المكتبات العمومية جزء من حل اللغز، لكن ذلك لن يجدي نفعا في غياب عادة القراءة وسط المجتمع، إذ لم يتجاوز عدد المسجلين في المكتبات العامة المنتشرة على طول المغرب المليون زائر. في الحقيقة إنه واقع بنيوي ثقافي يحتاج إلى كثير من العمل لفهمه وإصلاحه.

قد تلعب الأحوال المعيشية القاسية دورًا في شَغل المغاربة عن الذهاب للمكتبات العامة، لكن يبدو أن النظرة الثقافية للمجتمع التي تحتقر الكتب والقراء مسؤولة بشكل كبير عن تدني مستوى المقروئية، حيث يُنظر هنا إلى سلوك القراءة كعمل تبذيري لا طائل منه، كما أنه يُنظر إلى الكتب على أنها تسبب مشاكل نفسية وتُخرج المرء عن الدين، وتجلب المشاكل مع السلطة، وهي أفكار ترسخت لدى الناس في ظروف تاريخية وسياسية حين كانت المعرفة عدوة السلطة ومستهدفة من قبلها، مما خلق مع الوقت نوعا من "فوبيا القراءة" في نفوس المغاربة. ثم جاءت شبكات التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، التي أصبح يقبل عليها المغاربة رجالًا ونساء وصغارًا وكبارًا، لتعمق القطيعة أكثر مع الكتب.

في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تزدهر سوق القراءة الإلكترونية وتنتشر قارئات الكتب الإلكترونية والأجهزة اللوحية، وحيث تبيع "أمازون" كتبا إلكترونية أكثر من الكتب المطبوعة التي تبيعها دور النشر نفسها، ورغم ذلك لا تزال المكتبات العمومية هناك تلقى إقبالًا مذهلًا ليس فقط محليًا وإنما عالميًا، إذ رحّبت في عام واحد بأكثر من 1.59 مليار زائر، وأقرضت الكتب 2.4 مليار مرة، أي بمعدل 8 مرات لكل مواطن أمريكي.

علاقة المكتبات العامة بالتعليم

تلعب المكتبة العامة أدوارًا تربوية وترفيهية واجتماعية في المجتمع المحلي الذي تتواجد فيه، لكن إحدى أهم أدوارها الرئيسة هي دعم التعليم، ولذلك فليس مفاجئا أن نجد هناك ارتباطًا قويًا بين البلدان التي تتمتع بإرث ثري من المكتبات العامة وتقدم التعليم لديها، كما يُظهر تصنيف المكتبات العالمي. وذلك لأن المكتبات العامة توفر الكتب والمواد التعليمية ليقرأها الناس ويستخدمونها، ما يقود إلى تطوير المهارات الأساسية لمحو الأمية لدى الأطفال، وتحسين القدرات المعرفية والإبداعية عند البالغين، ناهيك عن أنها مورد للمعلومات يمكن لأي شخص الاستعانة بها لاستخدامها في مجاله الحياتي. إنها تمثل نوعًا من التعليم، وإن كان خارج التعليم الرسمي التقليدي.

 في الواقع تمثل المكتبات العامة الملاذ الأنسب للفئات الهشة وساكنة القرى، الذين لا يملكون الإمكانيات المادية لدعم مستواهم التعليمي، وفي هذا الصدد تظهر الدراسات أن ارتياد التلاميذ والطلاب للمكتبات العامة يحسن بشكل واضح من أدائهم التعليمي في المدرسة، وينمي لديهم ملكة القراءة والكتابة.

ما أحوج المغرب إلى مكتبات عمومية في كل حي وبلدة، فعالة وثرية بالمحتوى القيّم والجديد!

ازدادت المكتبات العامة تطورًا في الوقت الحاضر، فهي باتت توفر، إلى جانب الكتب المطبوعة، الإنترنت والوسائط التقنية الحديثة مثل الفيديو، والكتب الصوتية، والكتب الإلكترونية، وأقراص الفيديو الرقمية وغيرها. مثلما تنظم في فضاءاتها أنشطة القراءة الترفيهية والبرامج التعليمية، ودورات في التنمية الذاتية والاقتصادية.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة صلاح بوسريف

لتصبح المكتبات العامة واحدة من أنجح مراكز المعلومات لزيادة جودة الحياة المجتمعية، ولتوفير الفرص لكافة المواطنين من خلال توفير الوصول الحر والمتكافئ إلى المعلومات عالية الجودة، مما يصنع في الأخير مجتمعًا مستنيرًا بالحكمة.

فما أحوج المغرب إلى مكتبات عمومية في كل حي وبلدة، فعالة وثرية بالمحتوى القيم والجديد، تعمل على إيصال المعرفة للجميع وترجح أفضل الكتب الجيدة للوافدين، على الأقل من أجل دعم منظومة التعليم المهترئة، وتهذيب الطباع البدائية التي صارت تهدد السلم المجتمعي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

6 من أهم المكتبات العربية

باعة الكتب المستعملة.. ذاكرة كتاب المغرب