18-أبريل-2023
عمل فني لـ فينسينت أبادي حافظ/ فرنسا

عمل فني لـ فينسينت أبادي حافظ/ فرنسا

القلق مادة وجود أساسية عند الغنائيين الفرنسيين، يتحول إلى قلق من مادة لغوية عند أصحاب الاتجاه اللغوي. هذا القلق يرسم مسافته من اللغة إلى اللغة. اللغة التي هي النبع والمجرى والمصب. هي البحر. إنها غرض القصيدة وأفقها الأول والأخير.

الشعر، معهم "بدأ يتساءل عن نفسه" و"اللغة الشعرية ستكون أكثر من موضوع بين مواضيع أخرى. أبعد من محاولة ترجمة الإحساس أو الوجدان". الشاعر، هنا، يُحلّ اللغة محلّ المعنى، محلّ العاطفة. من هنا الشاعر يحاول إعطاء نظرية، تحتاج إلى تطبيق في الممارسة الشعرية. ذلك البحث الدائم الذي يربط النظرية بالممارسة. هذا الاتجاه تجمهر حوله مجموعة من الشعراء وأسهم معظمهم في تجمع "تل كل" (Tel Quel) الذي قدم نفسه في مجلة تحمل نفس الإسم، وأخرى تحمل اسم "Change" ومجلة "شعر" التي يصدرها ميشيل دوغي وتوقفت عند رحيله.

القلق مادة وجود أساسية عند الغنائيين الفرنسيين، يتحول إلى قلق من مادة لغوية عند أصحاب الاتجاه اللغوي. هذا القلق يرسم مسافته من اللغة إلى اللغة. اللغة التي هي النبع والمجرى والمصب

من أبرز الأسماء ميشيل دوغي، جاك ريدا وروبو وبرنار نويل وسالابروي، وجان بيار فاي واستيفان ودنيس روش. وإذا كان يجمع هؤلاء اتحاد مشترك، يربطهم ببعضهم البعض من خلال ربط النظرية بالممارسة، وبتقديم نوع من الكلاسيكية الجديدة وباستعمالهم لغة مألوفة "صوفية"، وبالتركيز على الحقيقة في لغتهم، وبأنهم "نصوصيون" (Textuels) يحاولون إلغاء مسألة الأنواع الأدبية في نص، أو في كتابة "Ecriture" وخلط مفاهيم الأنواع من قصة ورواية قصيدة وبحث، وبرفض الاشكال البالية والبائدة، إلا أنهم، بالرغم من هذه القواسم المشتركة، احتفظ كل منهم، بهامش مستقل وخاصّ به. نجدهم لا ينتمون إلى مدرسة ولا أي تيار، وكتاباتهم، لا تتشابه، فيما بينها عموما فالتيار لم يجرف خصوصية كل منهم، ولم يذب تميز كل منهم.

ميشال دوغي تحمل نصوصه ثقلًا فلسفيًا وذهنيًا، دنيس روش وبرنار نويل في نصوصهما ثقل الرواية والبحث. سالابروي كأنّما انطلق من شار (في منحاه اللغوي) ونسيه. استيفان جاء من الشعر اللاتيني. روبو، وربما كان الأهم بينهم برأينا، أعطى لغة، رغم ثقافتها متفتحة. جان بيار فاي الأكثر إيغالًا في "الفذلكة". بيروس يتميز عنهم برفضه المشكلية المطلقة وبمعانقة نثرية يومية محملة بالسخرية.

إذا كان معظم شعراء "اللغة" حتى لا نقول معظم الشعراء "اللغوانيين"، يدعي التجديد، ومقررًا رفض كل ما هو بالٍ ورثّ من قيم شعرية سائدة، محاولًا تفكيك اللغة لتفقد كلّ تراكم في المعنى الموجود، بما في ذلك "ثقل تاريخها"، باعتبار أن حياة الكلمة، ليس في ماضيها، وانما في مستقبلها، في سياق تحررها من آثارها. إذا كان كل ذلك من طموح حتى لا نقول من ادعاء، هذه المجموعة، فهل معنى ذلك أن هذا الاتجاه، جديد في رؤياه وفي تعبيره؟

يكفي أن نذكر Les Précieux أو الجماعة المتفذلكة في اللغة، كي نعرف أن هذه الجماعة، بافتعالها التعبيري المميز، وبهلوانياتها اللغوية، قد ضاهت كثيرًا هؤلاء الجدد. هذا من ناحية، من ناحية أخرى، إن معظم هؤلاء، لم يتجاوزوا في الجوهر، مقولات مالارميه وفاليري وبونج، وكذلك أدواتهم ولغتهم، إنهم أحفاد هؤلاء الشعراء وتلامذتهم غير النجباء باعتبار أنهم، في كتابتهم "الشعرية" لم يستطيعوا تقديم "بديل" كتابي، أو "نصي"، قادر على أن يكون مغايرًا بالفعل من ضمن قيمة إبداعية لا قيمة تاريخية. في هذا الإطار، لا يمكن عزل تأثير السريالية نفسها، وهي اللغة – النقيض، عن بعض الشعراء كروبو مثلًا، مع انفتاحه طبعًا على بعض الإكتشافات العلميّة المعاصرة.

وإذا شئنا بشيء من الحرية، أن نقارن هذا الاتجاه، ببعض ظواهر شعرية ونثرية في الأدب العربي، لوجدنا، أن "اللغوانية" هذه وان بدت ترتكز على قاعدة فلسفية – علمية، تلتقي مع "فن المقامات العربية" وعلى رأسه الهمزاني والحريري، في أمور كثيرة، في طليعتها أوّلًا "أولية اللغة" من ضمن المنحى المجاني الذي تنحوه. فالمقامات العربية، تهجس باللعبة اللغوية حتى المغامرة. بل إنها مغامرة لغوية، فيها المتعة لغوية، والهدف لغوي، وكذلك السياق.

ثانيًا، المقامة حاولت، وان، على شكل أو آخر، "مزج" الأنواع (التي كانت سائدة)، في نص قصصي، أو بحثي، أو شعري، وان في "كيانات" كتابية مستقلة. ولهذا يمكن القول إن "المقامة" كتابة أو "نص" تتحرك اللغة، فيه، على هواها، وتوظف، مجمل المناخات في خدمتها. انها السيدة بامتياز.

ثالثًا، المقامة لم تنفصل، في توجهها عن القاعدة الفكرية، أو الفلسفية باعتبار أن هناك مقامات تنطلق من هذه الهموم، كونها من الهموم التي عاصرت كتابها.

رابعًا، المقامة جاءت بعد ازدهار وتعميق للشعر الغنائي العربي، على أيدي الكبار كأبي نواس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري، حيث وصل هذا الشعر إلى قمته، وكذلك، الاتجاه اللغوي – المقامي الفرنسي، قد جاء بعد ازدهار وتعميق للشعر الغنائي الفرنسي على أيدي الكبار كبول كلوديل وشارل بيغي وبيار ايمانويل وسان جون برس وايف بونفوا.

جاءت المقامة في الأدب العربي بعد ازدهار وتعميق للشعر الغنائي على أيدي الكبار كأبي نواس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري، حيث وصل هذا الشعر إلى قمته

خامسًا، المقامة جاءت في عصر الانحطاط ردة فعل على الانهيار الحضاري للعرب، وكذلك جاءت هذه الكتابات في زمن تبدو فيه الحضارة الأوروبية، بقيمها المادية والروحية في شبه انهيار.

سادسًا، تبنى هذه الكتابة، اقتباسًا ونقلًا، بعض الشعراء العرب، ممن يتمتعون بذوق "مقامي" أصلًا، موسوعي المصطلح والمعجم، كمي، ومحمل، بالذهن والهموم الفلسفية. والقارئ العربي يعرف، أن مفهوم "الكتابة" اللغوية هذا، ظهر حرفيًا بالعربية في بعض تنظيرات شعراء الستينيات، من دون أن يشير هذا البعض إلى مصادرها. وكذلك بالنسبة إلى ممارسة هذه الكتابة ممارسة عملية، حيث نجد أن اللغة، اتخذت، وجها تجريبيًا، ذهنيًا، موسوعيًا، وأفضت، في بعض نماذجها إلى الدرب المسدود.

في هذا المنحى اللغوي، لا يُمكنُ فهم أننا نقف موقفا سلبيًا مطلقًا، من هذه الظاهرة، التي بدأت تتلاشى، في فرنسا نفسها، لأنه ظاهرة متصلة بطبيعة الواقع الاجتماعي والعلمي والفكري الذي يميز تلك البلاد، حيث تأتي تعبيرًا طبيعيًا، عن أزمة هناك. كل، ما أردنا أن نقول، إن هذه الظاهرة لا تتوازى، آليًا، مع إمكانيات تطور الشعر العربي، ومع طموحاته، إلا بما تعانق من ضمن استيعابها من قبل الشعراء، فلا تبدو قفزًا من أسلوب إلى أسلوب، دون سابق إنذار، أو تقلّبًا ينضج تجربة.