08-ديسمبر-2021

جنكيز خان في القتال. منمنمة من عام 1430 (Getty)

"فيا ليت أمي لم تلدني، و يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا.. فلو قال قائل إن بني آدم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا حيث إن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها أو يدانيها.. وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة فإنا لله وإن إليه راجعون..". هكذا يتحدث ابن الأثير عن تلك الأيام العصيبة التي برز فيها المغول على تخوم العالم الإسلامي، ثم راحوا يكتسحون مدنه وحواضره الواحدة تلو الأخرى. وإضافة إلى نغمة الأسى والتفجع، فإن الصدمة هي أكثر ما يميز كلام المؤرخ العربي. لقد وقف العرب والمسلمون حينذاك أمام عدو غير مألوف، بنوايا غامضة وسلوكيات غريبة ونهم غير مسبوق لكل شيء، للأرض والمال والنساء والدماء..

عاشت القبائل المغولية حياة قاسية في السهوب الآسيوية المقفرة والشحيحة بالموارد، ونتيجة لذلك، فقد احترفت الغزو والإغارة ولم تتقن مهنة سوى الحرب

يدرس كتاب "عصر المغول" لجورج لاين، (مشروع كلمة، ترجمة تغريد الغضبان)، الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جعلت تلك القبائل الآسيوية المحاربة تتجمع تحت راية جنكيز خان وتنطلق لتغزو العالم. يقول لاين إن التغيرات المفاجئة التي شملت أجزاء واسعة من آسيا وأوروبا الشرقية وكانت لها تأثيرات جذرية، تشبه في قوتها تأثيرات العولمة في عالمنا اليوم، وفي حين يصعب تحديد أسباب انتشار العولمة ومبرراتها، فإنه يمكننا نسب تلك التغيرات التي عصفت بالقرون الوسطى إلى رجل واحد، هو تيموجين بن يسوغي، المعروف باسم جنكيز خان.

اقرأ/ي أيضًا: عندما سحق مُخلص المسيحية خلافة المسلمين

غير أن الكتاب الذي ينتمي إلى "سلسلة الحياة اليومية عبر التاريخ" لا يعنى بمجريات الأحداث، سير المعارك وخرائط التوسع وسجل الانتصارات، بقدر عنايته بمفردات العيش اليومي للمغول والتي تعكس نمط ثقافتهم ورؤيتهم للعالم: حياة السهوب؛ المظهر؛ المسكن؛ الجيش؛ الصحة والدواء؛ الشراب؛ الطعام؛ الدين؛ أحوال المرأة؛ القانون..

ورغم أن الكتاب يحاول إعمال الأدوات التاريخية لتفكيك أسطورة المغول، ودحض الأوهام الشائعة عنهم، وتصويب العديد من وجهات النظر بشأنهم، إلا أنه لا يحقق في ذلك إلا نجاحًا محدودًا، ليس لأن الأفكار المسبقة راسخة ومتجذرة، بل لأن التاريخ المغولي نفسه، وحتى بعد التدقيق والتصويب، يغذي هذه الأفكار ويعطيها مشروعية.

لقد عاشت القبائل المغولية حياة قاسية في السهوب الآسيوية المقفرة والشحيحة بالموارد، ونتيجة لذلك، فقد احترفت الغزو والإغارة ولم تتقن مهنة سوى الحرب. ولزمن طويل ظلت هذه القبائل المغيرة كابوسًا للجوار الصيني والفارسي والأوربي، وتحكي "الشاهنامة" الفارسية الكثير من الحكايات التي تقترب من الأساطير، عن أولئك البدو الغزاة المثيرين للرعب.

وبالطبع فلم يكن منتظرًا من هؤلاء أن يعتنوا بالعمران، بل على العكس عرف عنهم ولعهم بتدمير العمران، وكانت الخيام المتحركة هي مسكنهم النموذجي، وكانوا يحملون خيامهم في الترحال على عربات تجرها الثيران، ومن علامات الترف القليلة لديهم أنهم كانوا يعنون بتزيين الخيام بالرسوم والألوان، كما أنهم حرصوا على أن تكون خيامهم واسعة ورحبة، مع شرط ثابت لا يتغير مطلقًا وهو أن تكون أبوابها باتجاه الجنوب حتمًا. ولكن سنة التغيير التي جرت على غيرهم جرت عليهم أيضًا، إذ ان الشعوب المغلوبة أمام جيوشهم سرعان ما أثرت فيهم وطبعتهم بطابعها، فراحت الأجيال المغولية اللاحقة لجيل جنكيز خان تشيد القصور الفخمة على الطريقة الصينة أو الفارسية.. وظلت الخيمة، مع ذلك، مفردة مغولية موقرة، فكان القائد المغولي يستقبل الضيوف ويجري المحادثات الرسمية في قصره الكبير، ثم يخلد إلى الراحة في خيمته المنصوبة إلى جانب القصر.

ثمة مفارقة في سلوك المغول، فهؤلاء الغزاة القساة الذين ظهروا في معاملتهم للآخرين بلا ضوابط أو روادع من أي نوع، كانوا فيما بينهم يلتزمون قانونًا صارمًا يندر الخروج عليه، ويسمى قانونهم بـ "الياسا"، ويُعتقد أن جنكيز خان جمعه من التقاليد والأحكام الشفهية التي كانت متداولة قبله، ويقال إن كل حاكم مغولي كان يحتفظ بنسخة منه في خزنته، وكان محظورًا على الأغراب والعامة الاطلاع عليه.

زار الراهب جيوفاني كاربيني بلاد المغول، وكتب معلنًا إعجابه بالتزام القانون السائد بينهم، وقال إنهم كانوا مسالمين إزاء بعضهم، والدعارة والغش واللصوصية كانت نادرة الحدوث في مجتمعاتهم، وإنهم كانوا لا يحرصون على حراسة مقتنياتهم، فإذا ما وجدت جياد أو ماشية سائبة فإنها تترك لترعى وحدها أو تعاد لأصحابها.

اعتبرت "الشامانية" الدين التقليدي للمغول، وتؤمن "الشامانية" بوجود أرواح متعددة تتفاعل مع الوجود الزمني للمخلوقات

اعتبرت "الشامانية" الدين التقليدي للمغول، وتؤمن "الشامانية" بوجود أرواح متعددة تتفاعل مع الوجود الزمني للمخلوقات، ويمكن التواصل معها والتأثير عليها من قبل رجال الدين "الشامانات"، وكان "الشامان" هو الناصح والمرشد للقبيلة ما جعله يتسنم مكانة رفيعة في المجتمع المغولي. وقد أبدى المغول مرونة عالية إزاء جميع الأديان والعقائد السائدة بين الشعوب الخاضعة لسيطرتهم، ويقول المؤلف إن ذلك لا يعود إلى تسامحهم بل هم أرادوا اللعب على كل الحبال والمراهنة على جميع الجياد، وكان الحاكم المغولي يحرص على أن يدعى له بالصحة وطول العمر من قبل جميع رجال الدين على مختلف عقائدهم ومللهم!.

اقرأ/ي أيضًا: هكذا لم يظهر جيل صلاح الدين!

وكان دور النساء في المجتمع المغولي غامضًا، فمن جهة كان للمرأة مكانة ووظيفة مؤثرة داخل العائلة، ومن جهة ثانية كانت تعد من ضمن المقتنيات، مثلها مثل الجياد والعتاد، وكان تعدد الزوجات شائعًا بين الموسرين منهم، ولكن واحدة فقط كان يناط بها إنجاب النسل وتربية الأولاد، والأخريات زوجات ثانويات يساعدن الزوجة الأساسية، وإذا مات الرجل فإن ابنه يرث زوجاته الثانويات ويتم البحث عن زوج آخر للمرأة الأساسية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سلطة الأزمنة السابقة

كتاب "الشرطة في مصر"..من أمن الرعية إلى أمن الحاكم