05-أكتوبر-2017

تغيرت صورة المعلم عند تلامذته وفي مجتمعه خلال العقدين الأخيرين (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

كان التعليم في الجزائر، خلال الفترة الاستعمارية، 1830 ـ 1962، لحظاتٍ مسروقة في الجوامع والبيوت وتحت الأشجار. وكان مقتصرًا على العلوم اللغوية والدينية، وهو ما رسّخ في المخيال الشعبي أن كل متعلّم عالم بالضّرورة. أمّا العلوم الحديثة في المدرسة الفرنسية، فكانت حكرًا على أبناء المستوطنين الأوروبيين والأسر الجزائرية المتعاونة مع سلطات الاحتلال، ونسبة قليلة جدًّا من أبناء الفقراء، من باب محاولة فرنسا إعطاء انطباع بأنها لا تفرّق بين "مواطنيها".

كان الجزائريون يعاملون المعلم في سبعينيات القرن العشرين على أنه امتداد لمجاهدي ثورة التحرير فأحاطوه بهالة من التقديس والاحترام

بعد الاستقلال الوطني، 1962، جعل أوّل دستور جزائري إلحاق الأطفال البالغين ستة أعوام بالمدارس إجباريًا ومجّانيًا، وكذلك فعلت الدّساتير التي جاءت بعده. فاستقدمت حكومة الاستقلال الوليد آلاف المعلّمين من الدّول العربية، مثل العراق وفلسطين وسوريا ومصر، حتى تسدّ الفراغ الذي كان مهيمنًا في هذا الباب. بعضهم رحل بعد تقاعده، وبعضهم مكث في البلاد، مخلّفين ذكرى وصورة جميلتين، فقد تعامل الجزائريون مع حضورهم، من باب الفضل عليهم.

اقرأ/ي أيضًا: الطلبة الجزائريون.. بين ماض ثوري وحاضر خامل

مع بداية سبعينيات القرن العشرين، بدأت المدرسة الجزائرية تستقبل معلّمين جزائريين، بشهادات بسيطة، بالنظر إلى عمر التعليم الوطني الذي، لم يكن قد تجاوز عقدًا من الزمن، لكن بمستوى تعليمي قوي. يقول العم محفوظ لـ"الترا صوت" إنه حصل على شهادة التعليم الأساسي عام 1973، "فلم تكن ظروفي تسمح لي بمواصلة الدراسة، وهو ما دفعني إلى الانخراط في التعليم مباشرة. لقد كان المعلمون نادرين، وكان توقيف المسار الدراسي والالتحاق بالتعليم واجبًا وطنيًا". ويشرح: "كان دافع ذلك الجيل من المعلّمين أن يجعلوا المدرسة الوطنية تكتفي ذاتيًا من المعلمين، وأن يكوّنوا جيلًا من المتعلّمين القادرين على الاضطلاع برهانات الاستقلال الوطني. أما الحصول على راتب شهري وتقاعد فيما بعد، فلم يكن يعنيه".

هذه الروح، يقول محدّث "الترا صوت"، جعلت الجزائريين يعاملون المعلّم على أنه امتداد لمجاهدي ثورة التحرير، فأحاطوه بهالة من التقديس، وكانت الأم الجزائرية تقول لابنها، وهي توقظه صباحًا: "قم لتدرس حتى تصبح معلّمًا". وكانت تحمّله بهدية إلى معلّمه، مثل البيض البلدي والسّمن والعسل وخبز الدّار، ومن علامات احترام تلميذ تلك المرحلة لمعلّمه أنه كان لا يدخّن أمامه، ولا يظهر في حضرته حتى خارج أوقات الدّوام.

في السياق نفسه، يقول المربي مخلوف صيّاد، الذي حصل على تقاعده عام 2016، لـ"الترا صوت" إن المسافة بين بيته والمدرسة التي كان يعلّم فيها، كانت تبلغ عشرة كيلومترات، "وكنت أقطعها ماشيًا، أنا المعطوب من ساقي، فأصحو على الساعة الرابعة فجرًا حتى أضمن الوصول في الوقت المحدّد". يضيف: "كانت المصاعب تتضاعف في فصل الشتاء، حيث أجدني ملزمًا بقطع المسافة تحت رحمة الثلوج والأمطار". ويتساءل مخلوف صيّاد: "هل كانت الجزائر تخرج إلى برّ الأمان في مجال التعليم لولا هذا الجيل الذهبي والوطني من المعلّمين؟ هناك من كان يقطع ستين كيلومترًا ليقوم بواجبه".

اليوم، وقد صارت البلاد تتوفّر على ثمانين مؤسسة جامعية، في مختلف التخصّصات، باتت الشهادة الجامعية مشروطة في الالتحاق بالتعليم. فعرفت المدرسة الجزائرية جيلًا جديدًا من المعلّمين حاملي الشهادات العليا، والقريبين من مقرّات سكناتهم، والمستمتعين بحقوق لم تكن لسابقيهم، بلغ عددهم هذا الموسم 495 ألف معلّم. مع ذلك تعاني المدرسة الجزائرية نسبة مرتفعة من التسرّب المدرسي، وتدنيًا غير مسبوق في التحصيل العلمي.

نزلت وظيفة المعلم من مقام التقديس إلى مقام الابتذال في الفضاء الجزائري، إلى درجة ظهور نكت تتناول شريحة المعلّمين وتبتذل صورتهم

كما نزلت وظيفة المعلّم من مقام التقديس إلى مقام الابتذال، في الفضاء الجزائري، إلى درجة ظهور نكت تتناول شريحة المعلّمين، وتبتذل صورتهم. يقول الكاتب حكيم شيخ، الذي التحق بالتعليم خلال الموسم الجديد إن النكتة ما مسّت شريحة من الشرائح إلا كان ذلك مؤشرًا على ابتذال المجتمع لها، "وما يُؤسف له أن المنظومات المعنية عندنا لم تتحرّك لدراسة السياقات الموضوعية التي أدّت إلى هذا الانحدار في صورة المعلّم الجزائري، ووضع ما يلزم من وقايات وحلول". يسأل حكيم شيخ: "لماذا اقتصرت كلّ الإصلاحات، التي عرفتها المنظومة التربوية في الجزائر على المضامين والبرامج العلمية، ولم تتناول الجوانب المتعلّقة بالمعلم؟".

من جهته، يُرجع الكاتب والمترجم محمد بوطغان، الذي قضى 33 عامًا في التدريس هذا الواقع، الذي قال عنه إنه "مزعج ومخيف"، بحيث أصبح المعلم يخجل من صورته، والتلميذ يخجل من مئزره، إلى جملة من السياقات الموضوعية، منها نشوء برجوازية غير نبيلة في الجزائر، أدّت إلى ظهور نمط من رجال المال والأعمال الأقرب إلى المنطق الرّعوي، "فباتوا يشكلون النموذج المحتذى به من طرف الجيل الجديد خلفًا لنموذج المعلم والمتعلّم والعالم".

اقرأ/ي أيضًا: النقل المدرسي في الجزائر... همّ الطلاب قبل الدرس

يشرح بوطغان فكرته: "ما معنى أن يتمكّن هؤلاء المتسرّبون مدرسيًا من حيازة سيارات وبيوت ومصانع وأرصدة مالية، وقد ترشّحهم الأحزاب للمجالس المختلفة بما فيها البرلمان، في مقابل عيش المعلّم على الديون؟". يختم: "قبل أن نلوم التلميذ على ابتذاله لصورة معلّمه علينا أن نلوم المنظومة الاجتماعية والسّياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية العامّة على أنها قدّمت له نموذجًا سيّئًا للاقتداء".

وقف "الترا صوت" أمام عدّة مدارس في ولاية برج بوعريريج، 200 كيلومتر إلى الشرق من الجزائر العاصمة، في يوم المعلم الموافق للخامس من تشرين الأول/ أكتوبر، لمعاينة مظاهر الاحتفال به، فلم يرصد شيئًا من ذلك. تقول نورة منصوري، مديرة إحدى المدارس الابتدائية، إن العبرة ليست بنشاطات تقوم بها المؤسسات التربوية احتفاء بالمعلمين، بل بانخراط المجتمع نفسه في المسعى، "لكن يبدو أن المناسبة لم تعد تعني له شيئًا".

دفع هذا الفتور في الاحتفال بيوم المعلّم الكاتب والمربّي عزّوز عقيل إلى دعوة المعلّمين إلى أن يعبّروا عن ذواتهم ووجودهم بأنفسهم في مواقع التواصل الاجتماعي. يقول مخاطبًا المعلّم: "إن لم تحتفل أنت بعيدك، فلا تنتظر أن يحتفل به الآخرون. زلزلوا فيسبوك بالتهاني أيها المعلّمون".

 

اقرأ/ي أيضًا:

العبقرية الجزائرية في إنتاج الفشل

الشباب الجزائري.. لماذا كل هذا الحصار؟