17-يوليو-2016

Getty Images

حين انقلب السيسي على حكم مرسي، وحالفته نخب مصرية، سرت بين كثيرين عبارات حانقة من قبيل أن الليبراليين وفئات مجتمعية مستعدون للتحالف مع الجيش لقتل الناس حتى لا يخسروا شرب البيرة في المقاهي وعلى نواصي الشوارع. وتكاثرت عبارات شبيهة، وبدأ من يُقصَدون بالكلام والاتهام بدفع "التهمة" عن أنفسهم والاستخفاف بهذا المنطق، في حين بدأ أصحاب الاتهامات باستخدام هذه المضامين لقناعتهم بإدانتها الكاملة لدوافع ومبررات طيف من مناصري الانقلاب.

من المفترض ألا يتردد الليبرالي أو اليساري أو غيره، في القول إنه أيضا يتظاهر ويحتج ويقاتل على نمط عيش يتمناه في مجتمعه

مهم هنا الإقرار، بأن المنخرط في العملية السياسية، إسلاميًّا كان أو ليبراليًّا أو غيره، ببرنامج متعلق بالمجتمع والسياسة والدولة، يخاطب الجمهور عن نمط العيش في قسط وافر مما يقول ويدعو. إن سن القوانين وتغييرها متصل لدى الإسلامي بالتصور عن حياة تشبه التصورات الذهنية عن "المجتمع المسلم". ولذلك فتنصل الليبرالي أو اليساري أو غيره، من القول إنه أيضا يتظاهر ويحتج ويقاتل على نمط عيش يتمناه في مجتمعه، يبدو زائفًا، فهذا النضال طبيعي جدًا وصحي جدًا وفوق هذا حقيقي.

فالمعركة حين تتصل بالمجال العام فهي متصلة بالنقاش والتعارك على نمط العيش، خيارات من نوعية كيف نأكل ونشرب وكيف نلبس وماذا يرى أولادنا في الشارع والمدرسة.. إلخ. هذا جوهري ومهم، والتصالح معه أساسي لإحراز تقدم في مجتمعات تعيش موجات ثورية واستبدادات عسكرية وغير عسكرية متجددة، ومهم أيضًا لحوار الدين والمجال العام والنظام السياسي، وإنجاز هذا السجال أو الوصول إلى حلول فيه مقدمة للخوض في غيره من القضايا المصيرية، كالوضع الاقتصادي والتأخر في كل النواحي، والموقف من القضايا المصيرية لنا كعرب.

بل إن ابتزاز النظم العربية للأقليات مثلًا لطلب موالاتها ومبايعتها للنظم القائمة، قائم في شطره الأوسع على حوارات حول نمط العيش، اللعب يتم على وتر ممارسة الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية دون منغصات ودون تضييق، والثابت اليوم أن كثيرين جدًا، الأغلبية بصراحة واضحة، قد تجد هذا أهم من الحريات السياسية، فهي متصلة بكل فرد، بمخاوفه وهواجسه، بيومه ولبسه وطعامه، بل وبكل حركة ونشاط يأتيه في حياته. في حين ظلت السياسة لعقود وربما قرون قبلها شأنًا خاصًا بفئة من المجتمع، بل إن النظام الديمقراطي هو الوحيد الذي يجعل الشأن السياسي خاصًا بكل فرد في الدولة، صوته مهم واهتمامه بالمجال السياسي إجباري. قديمًا كانت السياسة في أحسن حالاتها شغل أقلية من الرعايا في أي بلد. اليوم كلنا معنيون بشيء اسمه الحياة السياسية، بل إن تنصلنا منها وقرارنا بالابتعاد لم يعد ممكنًا، شكل الحياة اليوم يجعلها شأننا جميعًا، وندفع ثمن الابتعاد غاليًا.

اقرأ/ي أيضًا: سكاي نيوز عربية.. ما هكذا يُصَدق الكذب

ابتزاز النظم العربية للأقليات لطلب موالاتها، قائم في شطره الأوسع حول نمط العيش، اللعب يتم على وتر ممارسة الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية دون منغصات وتضييق

وكلنا على دراية تامة، ماذا فعل هذا الشرخ في موضوع الأقليات بالمشرق العربي في السنوات الأخيرة. وصار النقاش في مجمله تخويفًا وترهيبًا قائمًا على ماذا سيفعل بكم الإسلاميون إذا وصلوا للحكم؟ وحتى في حالة كتونس وصل فيها الإسلاميون للحكم ولم يفعلوا شيئًا، ظلت ماكينة التخويف فعالة وذات أثر، فالكل خائف على نمط عيشه. بل إن كثيرًا من النخب والتيارات صار سلوكها أشبه بسلوك الأقليات والطوائف، ترضخ لابتزاز الاستبداد لتحافظ على نمط عيشها الذي يخوّفها من تبديده إن حكم غيره. وبصرف النظر إن كانت قناعة أي كان بأن هذا النقاش مضخم أو يفلح كثيرون في رمي الإسلاميين به، فإن معالجته ملحّة وطرحه بهذا الحجم عربيًّا، يجعل إنكار أهميته غير مفيد ولا عمليّ.

 

لماذا تركيا مهمة في هذا النقاش؟

هاجر كثيرون، إسلاميون وذوو ميول إسلامية عرب، مختارين أو مضطرين إلى تركيا، عاشوا ويعيشون بقناعاتهم، التي لم يتسن حتى الآن فحص تغيرها أو تزحزحها. وهنالك في تركيا حيث نمط العيش مختلف عن دولهم العربية ومتجاوز لكثير من نقاشاتهم. هناك تعايشوا مع ما كان موضوعًا ساخنًا في بلادهم، وهي الحريات الشخصية. لم يقلل ذلك من إعجابهم بالنموذج التركي. وجدوا في تركيا على الأغلب كثيرًا من كل شيء، بيئات شبيهة بتلك التي يرغبون بالعيش فيها، وإلى جانبها ببضعة شوارع بيئات فيها كل ما يرفضونه ويأنفون منه، ولكن الإطار الجامع، أي النظام العلماني المتصالح ثقافيًّا مع خلفيته الدينية والقومية، ظل محل إعجاب، وها هو يتزايد بشكل هائل.

النموذج التركي يعطينا فكرة وافية عن حالة قائمة من التعايش بين الأتراك أنفسهم رغم اختلافهم في نمط العيش، وبين من استقر في تركيا من عرب أيضا

بل إن النمط التركي، بالنظر إلى نمط العيش، يبدو حتى من هذه الزاوية بالغ الشبه بما يتمناه ويسعى له الليبراليون ودعاة الحريات في المنطقة العربية، وسقفه أعلى بكثير مما رضوا وقايضوا النظم الحاكمة، النظام الحاكم في مصر على الأقل. لا نتحدث هنا عمن لديهم مشكلة مع أي مخالف، يتمنون حياة على مقاس خيالاتهم النظرية، فهؤلاء يضعوننا في مواجهة يوتوبيا غير موجودة، بل إن تعلقهم بها اليوم هو في أحد أوجهه تعطيل لتحقيق أي إنجاز يمكن بالمراكمة أن يحول بلادنا إلى نظام قادر على احتواء الجميع بدون تنازل عن الحرية التي هي أساس كل مطلب.

لكل هذا فإن النموذج التركي مهم، مهم بما يقدمه من نموذج ننخرط جميعًا في متابعته بصرف النظر عن موقفنا منه، ولهذا يسعى كثيرون لتشويهه بما ليس فيه، وللطرافة أغلبهم غربيون من وسائل إعلام ونخب، وعرب كارهون لأنفسهم وخلفياتهم القومية والثقافية، أو إسلاميون لا يرون السياسة إلا طريقًا إلى حفلة اقتصاصات وقصاصات من كل من يخالفهم.

إن هذا النظر لا يعني مديحًا مجانيًّا للنموذج التركي، مع الوعي بكثير من علله، ولكنه على الأقل يعطينا فكرة وافية عن حالة قائمة من التعايش بين الأتراك أنفسهم وعن إمكانيةٍ عملية لتخفيف موضوعات الشرخ في المجتمعات العربية، وبين من استقر في تركيا من عرب لاجئين ومهاجرين مختارين أو مكرهين، بكل انتماءاتهم الفكرية والسياسية، وهؤلاء هم من نرصد منذ أيام حبورا في وجوههم لأن تركيا اجتازت محنة كانت وشيكة.

اقرأ/ي أيضًا:

الجدول الزمني لصعود وهبوط الانقلاب في تركيا

الإعلام العربي وتركيا.. أخطاء بمستوى فضائح