14-أكتوبر-2017

مرشحة فرنسا الفائزة في السباق لرئاسة اليونسكو (توماس سامسون/أ.ف.ب)

العالم لا يمكن إلا أن يكون منحازًا، كانت بداية علاقتي بالانحياز مع كتاب العالم من منظور غربي، وهو كتاب صغير بحجم كف اليد أو أكبر بقليل، يقدم المسيري من خلاله رؤيته وتجربته عن استحالة أن يكون العالم محايدًا. فلكل منظوره الذي كونته معطياته وبيئته وخبراته، وهو الذي يكون في النهاية النموذج المعرفي الذي يرى من خلاله العالم.  

كانت استراتيجية الدعاية لمرشحة مصر لليونسكو هي مهاجمة الخصم القطري العربي، بدلاً من تقديم مبررات حقيقية للتصويت لمصر

وأرى أن أكثر الأشياء في هذا العالم التي لا يمكن أن تكون محايدة هي الإعلام.. الإعلام لا يمكن أن يكون محايدًا، الانحياز لقضية ما هو الأصل، لكن الانحياز يتطلب رؤية أيضًا، رؤية أخلاقية وأبعادًا براجماتية. والحقيقة أن السيدة مشيرة خطاب، في ترشحها لمنصب مدير عام اليونسكو، تناقض المنطق والانحياز والأبعاد البراجماتية والأخلاقية جميعها.

قبل إعلان فوز المرشحة الفرنسية ليلة أمس برئاسة اليونسكو، وعلى مدى عدة أسابيع، بدأت حملة مشيرة خطاب، الوزيرة السابقة في حكومة نظيف في مصر، التي قامت ضدها ثورة الخامس والعشرين من يناير. كانت مشيرة خطاب تتبنى خطاب سوزان مبارك الاستعلائي، صاحب رؤية "هوانم" الحُكم، اللواتي ينتمين إلى صورة السيدة صاحب الابتسامة السمجة والهيئة "المهندمة" المطبوعة على كل كتب مشروع القراءة للجميع، والتي وعى عليها جيل التسعينيات وأوائل الألفية. السيدة التي كانت تتمنى أن يصل ابنها المدلل إلى الحكم، لتدخل مصر عصر التكلس العظيم في طوره الثاني بعد طوره الأول المباركي ذي الثلاث عقود، في ظل حكم السيسي.

تعالت الأصوات داخل الإعلام المصري، وكانت استراتيجية الدعاية للسيدة مشيرة هي مهاجمة الخصم، بدلاً من تقديم مبررات حقيقية للتصويت لمصر. بدا الهجوم المصري على الخصم القطري هزيلًا ومملاً مثل مسلسلات التسعينيات، لا شيء جديد حجج مفتعلة وخطاب ركيك. حتى الإحالات التي اعتمدها الإعلام المصري عن المؤامرة الكبرى القطرية والتربيطات المالية وخطط التوازنات، لم تعتمد عملاً صحفيًا استقصائيًا رصينًا مثلًا. لا يمكنك على أي حال أن تعمل عملاً رصينًا وأنت تحجب مئات المواقع خوفًا مما يقوله عنك أصحاب الأقلام الرصينة.

اقرأ/ي أيضًا:  مرة ثانية.. أمريكا تنسحب من اليونسكو بسبب المال والانحياز إلى إسرائيل!

أما أصحاب البرامج الحوارية المصرية، فكانوا يرون أن المال القطري هو ما يحكم الانتخابات في اليونسكو، ولنفترض صحة هذا الزعم، أ ليس هذا مالًا عربيًا يحل محل مال أمريكي يريد أن يفرض أجندته؟، أ ليس المال العربي هنا يدعم الوجود الفلسطيني في محفل دولي؟

أين ذهبت مصر بأموالها وقوتها الناعمة، كما يُروج دائمًا، على الخريطة العربية؟ غابت مصر عن إفريقيا، فغابت إفريقيا عن التصويت لمصر، الأخت البيضاء المتعالية، التي كان عمر سليمان ورجاله الأشاوس يتفاهمون مع جيرانهم الأفارقة فيها بالحديد والنار، بينما كسبت إسرائيل مساحات إفريقية شاسعة بمالها وتجارتها هناك و زرعت نفسها هناك لعقود، بتجارة  السلاح والاستثمارات المهمة.

حين يتساءل الكثيرون "لماذا لا يجتمع العرب حول مرشح واحد"، كان من الممكن أن يجدوا ردًا صريحًا أكبر من مجرد الاعتراف بنكاية مصر سياسيًا في قطر. هذا الرد كان أوضح في المشهد البائس لوقوف أحد الدبلوماسيين المصريين  ليهتف كالمجانين: "نو قطر.. فيف لو فرانس!".

اقرأ/ي أيضًا: إسرائيل وعضوية الاتحاد الأفريقي: احتمالات وتداعيات

وزارة الخارجية المصرية أعلنت دعمها للمرشحة الفرنسية ابنة مستشار الملك المغربي المروّج لتطبيع هادئ مع إسرائيل

وزارة الخارجية المصرية برئاسة سامح شكري أعلنت دعمها الكامل للمرشحة الفرنسية الفائزة أودري أزولاي، وهي ابنة مستشار ملك المغرب أندريه أزولاي، اليهودي ابن مدينة الصويرة، صاحب اللكنة الفرنسية الرشيقة، الذي طالما سعى إلى تطبيع هادئ مع إسرائيل، و يتبنى نظريات التطبيع العربية الحديثة التي ترى أن حل الدولتين أولوية من أجل إسرائيل آمنة. وهو ما يعني أن عودة وجه أودري الباسم إلى واجهة المنظمة بعد رحيل الولايات المتحدة عنها بتمويلها، مجهود باتجاه استعادة الولايات المتحدة، وإسرائيل معًا، أي أنه ملف عربي جديد يخسره العرب بسبب تشنج السلطات المصرية وأنانيتها.

أما فرنسا، فهي تبدو في تلك المحافل المعلمة، التي تفرق بين التلاميذ المتقاتلين بالحلوى، لا أنت ولا هي بل أنا!، حيث دفعت بمرشحتها للفوز، وهو ما يعني استحواذَا فرنسيًا جديدًا على اليونسكو، بعد أن احتل المنصب رينيه ماهيو، الذي شغله من عام 1961 حتى 1974. الأجندة الفرنسية هذه المرة قد لا تكون مثل أجندة رينيه ماهيو في الستينيات، حيث معركة فحص كتب الأونروا التي رواها حسن نافعة في كتابه "العرب و اليونسكو"، وشهد فيها لماهيو صموده ضد الابتزاز والمراوغة الإسرائيلية، أتوقع أن تكون المعركة اليوم في صالح استعادة إسرائيل والتمويل الأمريكي بأجنداته الموالية لها.

لا يسعني في النهاية سوى أن أتذكر الجُملة الساخرة التي ذاعت في مصر بعد أن هدد السادات بالانسحاب من مفاوضات السلام في كامب ديفيد، فهدده كارتر بالتخلي عن صداقته، وبتخلي أمريكا عنه، وقتها ذاع في مصر أن السادات أذعن "علشان خاطر كارتر"، وهي الجملة التي اتخذها المصريون فيما بعد شعارًا للسخرية من السادات ونقلها فيلم الجزيرة "السلام المُر". اليوم تدعم مصر فرنسا "علشان خاطر إسرائيل"، ولكن الجملة اليوم سمجة وبائسة أكثر ولا طعم فيها لأي سخرية مقبولة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وزير إسرائيلي في مجلس المستشارين المغربي.. استنكار وغضب واسع

كيف يساهم "مناهضو التطبيع" في تفتيت الإجماع ضده؟