26-مايو-2019

تريد المعارضة الإسرائيلية الانفصال عن الفلسطينيين من منطق إقصائهم (تويتر)

غالبًا ما تتبع الحركات اليمينية نوعًا من البروبغاندا الذي يعتمد على الخطر الوجودي، من خلال القول إن عاملًا معينًا، مثل اللاجئين أو التهديد الديموغرافي، يهدد طابع الأمة أو الدولة أو حتى وجودها. وهي الفكرة التي أصبحت أساس مفهوم "الأمننة" (securitization)، أي هذا النمط من الخطابات التي تسعى إلى ترويج أو رفض قضايا معينة من خلال تحويلها إلى قضايا أمنية.

مع عمليات الأمننة العميقة في إسرائيل، يتحول الصراع في الفضاء العام في دولة استعمار استيطاني تحكمها تصورات أمنية حاسمة، من التنافس على من يحقق "مصلحة الأمة" إلى من يستطيع إخافتها أكثر

هذا نموذج سهل لفهم خطاب اليمين الخائف من اللاجئين مثلًا، أو الذي يروج الخوف منهم. لكن هناك بعض الدراسات في هذا السياق، التي حاولت فهم خطابات اليسار عن طريق نفس منطق الأمننة هذا، لكن ليس من خلال "الخوف"، وإنما من خلال الخوف من الخوف نفسه. على سبيل المثال، فإن الأحزاب اليسارية الغربية أو المعادية للشعبوية، تروج لفكرة أن الخوف من اللاجئين عند اليمين، يهدد الهوية الحضارية والديمقراطية لأوروبا. وكما يسعى اليمين إلى تبرير اتخاذ سياسات طارئة وصارمة ضد اللاجئين بسبب هذا الظرف "الاستثنائي"/الخوف. فإن اليسار يميل إلى اتخاذ سياسات طارئة ضد حرية التعبير أيضًا بسبب هذا الوضع الاستثنائي/الخوف من الخوف.

اقرأ/ي أيضًا: الأمننة والشعبوية.. الخوف كدعاية سياسية

في إسرائيل، وهي تجسيد لنموذج يطلق عليه بعض الباحثين "أمننة عميقة"، يبدو الأمر أكثر تعقيدًا، لكنه يذهب إلى نفس السياق. فالأحزاب المعارضة لليمين، التي خرجت في مظاهرة أمس السبت، الـ25 من أيار/مايو الجاري، خوفًا على الديمقراطية الإسرائيلية من سياسات نتنياهو المتهم بالفساد وبمنح نفسه حصانة، تعمل بنفس المنطق. هناك خوف من الفلسطينيين يتبناه اليمين، فيشرع سياسات ضد المحكمة العليا، وضد "انحيازها" في بعض القضايا الهامشية معهم، ثم يخاف اليسار من عواقب هذا الخوف، على ديمقراطية إسرائيل.

في هذا السياق، يتحول الصراع في الفضاء العام، في دولة استعمار استيطاني تحكمها تصورات أمنية حاسمة، من التنافس على من يحقق "مصلحة الأمة" إلى من يستطيع إخافتها أكثر، أو من يستطيع إقناعها بما هو الخطر الذي يجب أن يكون على أولوياتها. في إسرائيل هناك جماعات تعتقد أن الخطر الديموغرافي (زيادة السكان الفلسطينيين) هو الأهم والذي سيحدد مستقبل اليهود جميعهم. هناك جماعات أخرى تجادل بأن الخوف من هذا الخطر سيجعلنا ننسحب من الضفة الغربية كما انسحبنا من غزة، وبالتالي فإن إسرائيل ستؤول في نهاية المطاف إلى دولة صغيرة ضائعة في محيط كبير وواسع. هناك آخرون يعتقدون أن الكثافة السكانية بسبب الخوف الديموغرافي هذا والتحريض على زيادة الخصوبة اليهودية لمواجهة العرب، ستصبح قريبًا أهم ما نواجهه. وآخرون ينظرون إلى صعود المتدينين بنفس الطريقة، وكذا للتلوث البيئي أو للفساد الحكومي، إلخ. هناك دائمًا مخاطر على طابع الدولة أو وجودها حسب هذا المنطق، تتنافس كل جهة على أن يكون الخطر الذي يصب في مصلحتها، هو الأولوية.

 في حالة السجال بين اليمين الشعبوي في أوروبا والأحزاب غير اليمينية، فإن النقاش عن "طابع الأمة" يتحول إلى قفزة كبيرة عن مصالح الناس فيها، وعن الناس أنفسهم. فقد يدعو حزب ليبرالي مثلًا إلى حظر مشاركة أحزاب شعبوية في الانتخابات، من أجل الحفاظ على الطابع الديمقراطي للدولة! هنا وللمفارقة تتحول "هوية الأمة" أو طابعها، إلى شيء مجرد، منفصل عن حياة الناس اليومية، وحتى عن السلوك السياسي نفسه. 

اقرأ/ي أيضًا: مارتن شولتز.. اللعب مع الشعبويين على قواعدهم

أما في حالة إسرائيل، فإن الأحزاب المعارضة لنتنياهو، ترفض أن يتم ضم الفلسطينيين وتسعى إلى تحقيق حل الدولتين المشروط بهواجس أمنية. وبالتالي فإن هذه الأحزاب قلقة من أن تقوم إسرائيل بمعاملة الفلسطينيين بطريقة غير ديمقراطية، أو من حرمانهم من حق التصويت مثلًا. لكنها لا ترى أن الحل هو التعامل معهم بديمقراطية طبعًا، ولا إعطاؤهم حق المشاركة السياسية، ولكن الانفصال بالكامل عنهم، أو التخلص منهم ببساطة.

هنا،  تبرز فكرة إسرائيلية أصيلة. أي هذا الانشغال بـ"القيم النظيفة" للصهيونية، بدون أي اهتمام بجدواها على الأرض أو حتى معناها. نحن لا نريد أن نكون مجرمين، لكن ليس قلقًا على الضحايا ولا على مصيرهم، ولكن قلقًا على "قيمنا" نفسها. وهي القيم المجردة، التي طالما تم تأويلها، حتى اتسعت قدرًا هائلًا من الجرائم. وحتى وصلت إلى لوم الضحايا أنفسهم، لأنهم "اضطرونا إلى قتلهم"، أي إلى "اختراق أخلاقنا الرفيعة".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

وحش الكثافة السكانية.. عقدة آباء "الدولة اليهودية" وأبنائها