02-أبريل-2023
زقاق الجن

من المسلسل السوري زقاق الجن

كثيرًا ما يلفتني في المسلسلات الرمضانية السورية التي تدخل تحت تصنيف مسلسلات البيئة الشامية، ذلك الإصرار المستمرّ في تلك المسلسلات على تصوير المرأة باعتبارها فاعلة سلبية في مجتمعها بالمطلق، حيثُ يتمّ تصويرها غالبًا بصورة "الحرمة" التي يجب عليها أن تلتزم بيتها، والتي تقتصر مهامها على الجلوس في المنزل والتفرّغ لنسج المكائد والدسائس.

ولا يقتصر الأمر على مسلسلات البيئة الشامية التي يُطلق فيها الرجال عند دخولهنّ على النساء عبارة "انضبوا يا حريم" في شكل من أشكال الاستئذان، بل إنّ هناك مسلسلات كاملة جاءت عناوينها العريضة مستوحاة من عوالم النساء الخفية، وما فيها من دسائس ومكائد، مثل مسلسل "الحرملك" السوري، وهو مسلسل فانتازيا تاريخية، ويجيء ليسلّط الضوء على عهد المماليك، فيروي بعضًا من كواليس وصولهم للحكم وتصرّفهم في السلطة، مع التركيز على حياة الحريم وتداخلها وتأثيرها في نظام الحُكم.

تُوضّح فاطمة المرنيسي أن كلمة حريم تعني "الحرام والحرم في آن، أو المكان المقدّس الذي يخضع الدخول إليه إلى قوانين محددة صارمة"

 

دفعتني ملاحظتي حول تلك المسلسلات إلى التفكير في السرّ الكامن وراء رغبتها الدائمة في تصوير أمكنة النساء وعوالمهنّ في مكان واحد وهو "الحريم"، ذلك المكان الذي تظهر فيه المرأة في دور سلبي منمّط كوسيلة للجنس وقضاء الوطر، أو كمحترفة للنميمة وصانعة دسائس ومكائد، بعيدًا عن الفضاءات الأخرى التي تُمارس فيها أدوارها الحقيقية الفاعلة.

قادني بحثي عن السرّ إلى كتاب فاطمة المرنيسي "هل أنتم محصنون ضدّ الحريم؟"، فالمرنيسي تُوضّح في كتابها بأنّ كلمة حريم تعني "الحرام والحرم في آن، أو المكان المقدّس الذي يخضع الدخول إليه إلى قوانين محددة صارمة". وتوضّح المرنيسي بأنّ الحريم هو "مفهوم مكاني وحدود تقسم الفضاء إلى قسمين: فضاء داخلي أنثوي، مستتر ومحرم على كلّ الرجال ما عدا السيد، وفضاء خارجي مفتوح على كلّ الرجال ما عدا النساء".

فبحسب المرنيسي فإنّ الحريم أو الحرملك هي مناطق مخصصة لدخول النساء ويُمنع على الرجال أو الأجانب دخولها باستثناء السلطان أو السيد، وهذه المناطق كانت معروفة لدى الإغريق أو الرومان، وقام العرب باستيرادها وتطويرها والإضافة عليها، وتورد المرنيسي في هذا السياق: "العرب بادروا بتجديد مؤسسة الحريم وتحسينها، لا سيما بالنسبة إلى مساواة الجارية وحقوقها، فالجارية التي تُنجب ابنها من رجل حرّ، يتمتع بكامل حقوقه"، وتضيف "كان بمقدور السبايا الأعجميات في حريم هارون الرشيد إطلاق العنان لطموحهن برؤية ابنهنّ خليفة".

فالمرنيسي تُفرّق في حديثها عن الحريم بين الجواري اللواتي كنّ يُقمنَ في قصور هارون الرشيد، وكنّ يتمتعنَ ببعض الحقوق ويغلب عليهنّ صفات الحسن والذكاء وتعدّد المواهب، وبين حريم السلاطين العثمانيين وهنّ المحظيات اللواتي لم يكنّ يتمتعنّ بأية حقوق وكان يُنظر إليهنّ باعتبارهنّ مجرّد وسيلة إشباع جنسي للسلطان.

وتذكر المرنيسي بأنّ العديد من الفنانين الأوروبيين اهتموا كثيرًا برسم عوالم محظيات العثمانيين، وكان من بينهم الفنان الفرنسي هنري ماتيس، وتورد عن ماتيس بأنّه كان في عام 1912 يهزأ من رجال طنجة لأنهم غير نسويين، وكان يُقدم نفسه كرجل متحضر ومواكب للتقدم في مسألة المساواة بين الجنسين، لكنّه على النقيض مما يدعيه، لم يكن يستلطف النساء الفرنسيات المتحررات إلا حينما يرسمهن على هيئة محظيات.

وتضيف: "إن ماتيس وفيما كانت المرأة التركية عام 1930 تشعر بحاجة ملحة للتعلم وتحقيق ذاتها في العمل، كان يشعر بحاجة ملحة لاستعباد هذه المرأة التركية. لقد كان متمسكًا بمحظيته ولا يكترث للمرأة التي تقود طائرة أو المرأة المحامية. فقد كانت هاتان المرأتان تتطفلان على عالم أراد بناءه ليحقق التوازن الذي كان بحاجة إليه للإبداع".

رغم ادعاء هنري ماتيس التحضّر ومناصرة حقوق المرأة إلا أنّ كان يرسم محظيات السلاطين العثمانيين في وقت كانت فيه المرأة التركية تسير في طرق التعلّم والعمل

فالمرنيسي تؤكّد في حديثها السابق بأنّ ماتيس ورغم ادعائه التحضّر ومناصرة حقوق المرأة كان رسمه وتصويره لمحظيات السلاطين العثمانيين في وقت سارت فيه المرأة التركية في طرق التعلّم والعمل وغيرها، لهو دليل على أنّ هذا الفنان يبتكر في لوحاته شكل من أشكال الحريم الذهني، فيرسمه رغبةُ منه في استدعائه والعيش في زمنه.

وبناءً عليه، يُمكن استنباط سرّ ولع المسلسلات العربية السورية وغيرها بتصوير عوالم الحريم أو استخدام الألفاظ التي تُشير إليها وتُدلّل عليها، ويُمكن القول بأنّ كتاب ومنتجو ومخرجو تلك المسلسلات لديهم إدراك مستقرّ في أذهانهم لجاذبية تلك المسلسلات، وهو ما يدفعهم لكتابتها وصناعتها وإخراجها إلى الجماهير، لا لشيء سوى لمغازلة المنطق الذكوري في المجتمعات العربية، وجذبه عبر مخاطبة رغباته الكامنة في العودة في الزمن؛ إلى أزمنة كانت فيها النساء تُوضع في مناطق محرّمة، وتقتصر أدوارهنّ كجوارٍ ومحظيات على الإشباع الجنسي للسيّد الرجل ورسم المكائد والدسائس، وذلك كلّه بعيدًا عن حقيقة أدوارهنّ الفاعلة في الأزمنة الحالية في مختلف الأمكنة وكافة المجالات.