29-مايو-2017

حروفية لـ م. أ. بخاري/ باكستان

المسحراتي كتجريب

في هذه المرة تأتي تجربة "المسحراتي" كإرهاصة أخرى من شعر بيرم التونسي وأداء المطرب والملحن محمد فوزي، وهي من التجارب اللافتة للنظر لما خرجت به من حيز الأداء المباشر السطحي إلى الأداء الغنائي الذي يميل إلى التطريب. 

في تجربته مع محمد فوزي، أخرج بيرم التونسي المسحراتي من الحالة الارتجالية إلى الشكل الفني

وكعادة أغلب أغنيات المسحراتي بوصفها نداءات، يبدأ نصّ بيرم التونسي بـ "يا" كمحرك أساسي في البداية: "يا عباد الله وحّدوا الله/ يا عباد الله وحّدوا الله/ أنا أمدح المولى الغفور الودود/ اللي تجلّت رحمته في الوجود/ الأرض والسماوات عليّ شهود". ويسير النص في تلك الحالة المونولوجية إلى آخره، جامعًا بين النداءات الموجّهة والفردية الصريحة. 

اقرأ/ي أيضًا: المسحراتي في الموسيقى المصرية.. تجريب واكتمال (1- 2)

وقد تختلف الجملة لدى بيرم التونسي، فبالرغم من ظاهرها السطحي إلا أنها مُحمّلة بطاقات شعرية، بداية من الشكل الخارجي للجملة وتكوينها الداخلي ونهاية بمضمونها "يا رب تلطف بالعباد في قضاك/ إنت اللي ما لك شريك في عُلاك/ تبلغ الصايم نهاية رضاك/ وتحفظ الإسلام على مدى الأيام/ واللي اعتماده عليك يا رب لا ينضام"، ولنلاحظ كيف خرج بيرم بالمسحراتي من الحالة الارتجالية إلى الشكل الفني، وهو ما استطاع أن يترجمه محمد فوزي بشكل صحيح وموفق. 

كلاهما نجح في طرح المسألة من خلال قانونه الفني، فاعتمد بيرم التونسي على النسق الشعري في عاميته البسيطة المرتبطة بالشكل التقليدي البسيط، واعتمد على التقفية كقانون شعري سالف فأصبح هناك نسق يحكم الشخصية، أي شخصية المسحراتي، كبداية لطرحها فنيًا. كذلك قدّم محمد فوزي الشخصية من خلال لحن يقوم على التطريب من البداية وحتى النهاية، مع مراعاة كسر حالة الركود المعتادة لدى شخصية المسحراتي، بإضافته لحركات لحنية وإيقاعات مرنة وذائبة في روح اللحن، هذا بخلاف أدائه الخاص. وبمناسبة أداء محمد فوزي، فأغلب من يستمعون إليه يتهيّأ لهم أنه لا يبذل أي مجهود في طريقته في الغناء، وقد يكون هذا هو الظاهر فالمتأمل في أدائه يشعر وكأنه يُخرج الكلام كمن يحادث شخصًا آخر في الغرفة، أما الحقيقي والفني فهناك مجهود ليس بسيطًا وراء هذا الأداء، حتى يمكنه أن يخرج بهذه الصورة السهلة الإيقاعية المرنة التي تعج بالحركة والرشاقة.

يبدأ محمد فوزي لحنه بجملة أقرب للابتهالات "يا عباد الله وحدوا الله"، ويكرّر تلك الجملة الاستهلالية قبل الدخول في النصّ المُغنَّى والذي يتبعها بوقفة تمهيدية، وهنا تنقسم الجملة ما بين المؤدي والطبلة وتتوالى الجمل في نسق الدعاء وسرعان ما تدخل المجموعة كمتابع للمؤدي الرئيسي، ويتجلى في هذا اللحن حالة صوفية موالدية تضيف للحن بعدًا جماليًا وروحانيًا. ويقدّم فوزي من خلال اللحن مستويين من الأداء، فهناك مناطق لا يقدّمها سوى المطرب دون لجوء إلى أي خلفية موسيقية ومناطق أخرى تلعب الموسيقى فيها دور البطل، وتبرز شخصية المسحراتي من خلال الوقفات المتتالية في اللحن، بينما تختفي الشخصية قليلًا في المناطق الطربية منه "يا رب تلطف بالعباد في قضاك، وحتى نهاية المقطع" حيث تظهر شخصية المطرب بقوة، فالمسحراتي ليس بالضروري أن يقدّم حالة طربية وقد تُعدّ هذه إضافة من نوع آخر للمبتكر العظيم محمد فوزي.
 

المسحراتي كمشروع مكتمل

كانت هاتان التجربتان بمثابة التمهيد لتحوّل شخصية المسحراتي إلى مشروع فني كبير، على يد اثنين من القامات الفنية والأدبية الكبيرة، هما شيخ شعراء العامية المصرية فؤاد حداد والموسيقى النابه والمعلم الجميل سيد مكاوي.

ما من أحد يمكنه تخيُّل رمضان بدون "مسحراتي" فؤاد حداد وسيد مكاوي

استطاع كل من فؤاد حداد وسيد مكاوي أن يقدما ما يُعرف بالشخصية الفنية للمسحراتي وذلك كتابةً ولحنا وأداءً، وما من أحد يمكنه تخيُّل رمضان بدون "مسحراتي" حداد ومكاوي، فهما مبدعا ذلك المشروع الكبير الذي ظلّ لسنوات عديدة يُذاع صوتًا وصورة على التليفزيون المصري، ومن خلاله تعرّفنا على الطاقات الإنشادية لدى الاثنين. هما أصحاب الخلطة السحرية للمشروع الذي استفاد من تراث شعبي مصري أصيل يضرب بجذوره في التاريخ، وذلك من خلال قالب شعري خماسي مبتكر، استطاع فؤاد حداد أن يطرح من خلاله كافة الطاقات الشعرية من قضايا ونماذج إنسانية وبطولات تاريخية، ولدينا أدلة كثيرة على صحة ما نقول، ويمكن لأي باحث أو شاعر أو ناقد فني أن يعود إلى هذه التجربة الرائدة. فمن "مسحراتي" حداد-مكاوي نقف أمام الشخصية المصرية في أبهى صورها "اصحى يا نايم وحِّد الدايم/ وقول نويت بكرة إن حييت/ الشهر صايم والفجر قايم/اصحى يا نايم وحِّد الرزّاق/رمضان كريم".

القالب الشعري الخاص الذي ابتكره فؤاد حداد لكتابة هذا اللون من الفن يتكون من خمس مقاطع، يبدأ المقطع الأول بذلك المذهب الثابت في جميع النصوص، وفي ذاكرة الناس أيضًا، يليه ثلاثة مقاطع متغيرة، ثم مقطع خامس أخير ومتكرر "اصحى يا نايم وحِّد الدايم/ السعي للصوم خير من النوم/ دي ليالي سمحة نجومها سبحة/ اصحى يا نايم يا نايم اصحى/ وحِّد الرزّاق".

اقرأ/ي أيضًا: فؤاد حداد.. كلمة مصر والفقراء

ويتبع النص المتغير أحد المقاطع الثابتة، أي أن "المسحراتي" يحتوي نصوصًا عديدة، بعضها ثابت كلازمة أساسية والآخر يتغير، وهو ما يحتويه باطن النص: "المشي طاب لي/ والدق على طبلي/ ناس كانوا قبلي/ قالوا في الأمثال:/ الرجل تدب مطرح ما تحب/ وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوّال/ حبّيت ودبّيت كما العاشق ليالي طوال/ وكل شبر وحتة من بلدي/ حتة من كبدي/ حتى من موال". 

والملاحظ أن هذه البطانة الأساسية في النص هي الدافع نحو النص، فالموضوع ببساطة هو هذا المقطع: "وكل شبر وحتة من بلدي/ حتة من كبدي/ حتى من موال"، فالأمر يتطور لدى حداد من مجرد مسحراتي-منادي إلى مسحراتي صاحب وجهة نظر وقضية. 

نجح سيد مكاوي في طبع نص المسحراتي لفؤاد حداد بروح موسيقية ذات مساحات واسعة ومتغيرة

عن صورة مصر هناك أمثلة كثيرة في ذلك الكنز الكبير: "مسحراتي منقراتي وأنا بانادي بعلو حِسي/ يا دنيا حِسّي الحق بيّن ومصر أولى/ حققنا ثورة وقِمنا صخرة/ وعرقنا زيّن أرض البطولة/ إحنا اللي إيدنا خلّت حديدنا حديد حِنيّن على الطفولة"، فمن واقع النص تلمح شخصية مصر بشعبها وبإنجازها التاريخي ويمكنك أن تشمّ عرق الشخصية المصرية ففي ثناياه. 

"وأنا السنة دي شقّت سنابلي في كل وادي/ والليل خطب لي قمر زبادي/ يسحر وحتى هادي/ فردت حبلي بطول بلادي"، وهكذا على طول المقاطع التي يتكون منها النص الفريد يتحول المسحراتي إلى المؤرخ والزارع الناصح والموسيقار، وكأنه الشخصية المصرية بكافة نتاجها وتاريخها الرمزي. 

اقرأ/ي أيضًا: محمد فوزي..أيقونة البهجة وصريع ثورة يوليو

كذلك نجح سيد مكاوي في طبع النص بروح موسيقية ذات مساحات واسعة ومتغيرة ومبتكرة، مع تثبيت بعض المقاطع المتفق عليها كمقاطع أساسية على نفس حالتها في كل مرة مع تغيير المتغيّر في النصوص. استفاد مكاوي من الشكل التقليدي للمسحراتي، إلا أنه دفع به إلى مناطق غنائية لم تألفها أو تتقرّب منها هذه المنطقة فراح يقدم في كل مرة ما يشبه الصورة الغنائية محتميًا بقدرته على الاكتشاف والتوظيف اللحني للجمل الشعرية. جمع مسحراتي حداد-مكاوي بين الطاقة الإنشادية والجمل الحرة في صياغته للصورة كاملة، وجاءت جمل كثيرة كإجابات قاطعة على أسئلة ضمنية لم يُظهرها النص، فأظهرتها روح اللحن. هذا بالإضافة إلى أداء "الشيخ سيد" المليء بدفء التراث وروح غنائه، لذا سيظل مسحراتي حداد-مكاوي من الفنون الكبرى والأساسية في الحالة الرمضانية المصرية، كما أنه يتجاوز ذلك الارتباط الرمضاني إلى حالات أعمق وأشمل بوصفه يرصد جزءًا مهمًا من تاريخ مصر وأبطالها شكلًا ومضمونًا.

اقرأ/ي أيضًا:

25 عامًا على رحليها.. نادرة في سمائها

يا ليل.. يا عين: شرقٌ روتْهُ النساء