28-مايو-2017

حروفية لـ م. أ. بخاري/ باكستان

يعد التسحير أحد الفنون المهمة في تاريخنا السمعي، سواء كان هذا التسحير يعتمد على الشكل الشفاهي التلقائي، أو ذلك الذي يحكمه نسق فني. وأشكال التسحير تختلف من بلد إلى آخر ممن يعتنق أهله الدين الإسلامي. ويعتبر المُسَحِّر أو المسحراتي المصري من النماذج الحاضرة على المستويين الشفهي والتقني، ويعود الشفهي إلى الطريقة العفوية التي تنتشر في الريف المصري بشتى قطاعاته، بينما يظهر التقني في ربوع أو حقول الفن بأشكالها المختلفة.

يعتبر المُسَحِّر أو المسحراتي المصري من النماذج الحاضرة على المستويين الشفهي والتقني

المسحراتي هو أحد أطراف الدورة الرمضانية، بمعنى أنه يشغل حيزًا معادلًا منها، فالدورة الرمضانية تتعرض لأكثر من طرف وأكثر من علاقة، وجميعها يدور في شطرين يحكمهما الزمن: في النهار يكمل الصائم دنياه حتى يحلّ موعد الإفطار مع أذان المغرب، بينما السحور يقطع تلك الدنيا كأقصى حدود الإفطار ليبدأ يوم صيام جديد، أي أنه يعد الخط الفاصل ما بين السفر والمسافر. وتعتبر الطبلة هي الآلة الموسيقية الأكثر التصاقًا وتعبيرًا عن شخصية المسحراتي، فمن أهم سمات من يختار أن يكون مسحراتيًا أن يكون ذا صوت جهير وظاهر، بما يسمح بأن يقسِّم جملته المُغنّاة بين صوته والطبلة، فنادرًا ما يتحدان في صوت واحد. 

اقرأ/ي أيضًا: "يا لطيف".. أغاني التعب

التسحير.. فن ارتجالي

يعتمد المسحراتي الشعبي على الارتجال في مناطق عديدة، ويقوم بقفزات مختلفة من دون أن يحكمه قانون ثابت، فالصدفة هي القانون الأعلى في عُرف المسحراتي. لذا تختلف نداءات المسحراتي من مكان إلى آخر، كلّ بعاداته.

كذلك يقدّم المسحراتي نوعًا من التحايا إلى أهل منطقته طمعًا في جذبهم إليه، وخلق حالة روحية تنبع من الفرح العام بقدوم شهر رمضان. ويختلف نموذج المسحراتي الريفي عن النموذج المديني، بحيث يقدم كلاهما نموذجًا وحالة تختلف في سياقها، وذلك دون الرجوع إلى سند أو نص، فهو طارح النص ومؤلفه الوحيد. وقد يعتمد نص التسحير في أغلبه على النداءات، إلا أن كل شخص يفعل ذلك بحسب قدراته وزمنه، فقديمًا كان يمكننا أن نجد مسحراتيًا يستدعي رموز البطولات الشعبية من الذاكرة كأدهم الشرقاوي أو سعد زغلول أو مصطفى كامل، ومسحراتي آخر ينادي النبي محمد بوصفه المنقذ والمنتصر والهادي والمصطفى، لذلك يقدم بعضهم ما يعرف بالغناء أو أداء "الريستاتيف" مستحضرًا شخصية ما ذات أثر كبير في حياته وحياة الناس، ويقدمها بلسان حاله وحسبما يتصورها ويضع إطارها وخطوطها المتخيلة.

المسحراتي كإرهاصة

إن التجارب الفنية التي استطاعت أن تقدم المسحراتي ليست بالعدد الكبير، لذا يمكننا حصرها والحديث عنها. وقد تنقسم هذه التجارب إلى إرهاصات، ينتج عنها مشروع كبير. أولى هذه الإرهاصات هي تجربة "نداء المسحراتي" والتي كتبها الشاعر الغنائي إبراهيم رجب وقام بتلحينها الموسيقار محمد الموجي وقدمها بصوته أو بأدائه المطرب عبده السروجي.

يعتمد المسحراتي الشعبي على الارتجال، ويقوم بقفزات مختلفة من دون أن يحكمه قانون ثابت

تبدأ الأغنية بالطبلة ثم يدخل المطرب مناديًا في شكل عام:"يا مؤمنين بالله /يا موحدين بالله/ قوموا كفاية نوم/ هي الحياة كام يوم؟ /وبالصلاة والصوم يرضى علينا الله". ورغم بساطة النص كنص شعري، إلا أنه لا يخلو من سؤال فلسفي "هي الحياة كام يوم؟"، كما لا ينسى أن يقدم دور الناصح او الدليل إلى فكرة الرضا والمقصود هنا رضا الله. ويستمر المنادي في نداءاته:"يا مؤمنين بالله/ يا صايمين رمضان/ باب السما مفتوح وطالب الغفران". فبدايات المقاطع تتصدرها "يا" النداء والنص يقدم بطلاً يطمح من نداءاته في الغفران، ثم يطرح المسحراتي- المنادي أسماء من يعرفهم أو يوجد بينه وبينهم خيوط معرفة: "يا أبو السعود يا رشاد يا حاج عز الدين/ يا إمام يا عم فؤاد يا مرتضى يا أمين"، وذلك من خلال دعوته لهم: "قوموا اسجدوا لله وسبحوا لله/يا مؤمنين بالله"، ويختار الموجي ساحات إنشادية يستطيع أن يوظفها ما بين المؤدي الأساسي (المطرب) والمجموعة كمؤدٍ ثانٍ.

اقرأ/ي أيضًا: نجيم بويزول.. ما يغنيه المهاجرون

وكما أشرت في البداية فإن الطبلة هي البطل الرئيسي في حالة التسحير أو "نداء المسحراتي"، فقد نجح محمد الموجي في عمل التقطيع الحركي للجمل اللحنية مبيّنًا النقلات التصاعدية، خصوصًا أن النص يقوم في الأساس على النداءات، كذلك بالنسبة للنزول التدريجي حتى يوضّح أماكن التسليم والانتقال. واللحن يعتمد على الجملة الثقيلة المجسَّمة ذات الظلال المصحوبة ببطء في الحركة، ترسيخًا لروحانية الحالة. كذلك جاء أداء عبده السروجي ليكون مرآة للحالة ككل نصًا ولحنًا، ونجح محمد الموجي في اختيار أماكن المجموعة، ومن أبرز سمات صوت عبده السروجي أنه صوت بلا نتوءات، كما أنه من أمهر المؤدّين وأكثرهم استخدامًا للحُلى الغنائية من "عُرَب" و"بُرَد" دون أن يلجأ إلى الشكل التمثيلي من أجل أن يسحب الجمهور إلى منطقته، فهو من المطربين "الفتوات" إذا جاز لنا هذا التعبير. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحياة بوصفها "طنجرة ضغط"

الروك.. في ديوان العرب