"المستعمرة".. الهروب من تلك المدينة الظالم أهلها
11 يونيو 2025
قد يتساءل البعض عن سبب حضور فيلم ما عن غيره على خريطة المهرجانات السينمائية. هل يملك الفيلم سعيد الحظ توليفة ما تضمن له الوصول؟ وإذا كان في الأمر خلطة سرية، فأين يمكن اقتناء مكوناتها؟
أسئلة عدة تفور في الأذهان، بينما تطالعنا مشاهد أحدث أفلام المخرج المصري محمد رشاد "المستعمرة" (2025)، والتي شهدت مسابقة Perspective في الدورة الـ 75 من مهرجان برلين السينمائي الدولي، انطلاق عروضه العالمية الأولى. وبالعودة إلى التساؤلات السابقة، يمكن حصر الإجابة المطلوبة، بين جدران مفردة الطموح، فالحقيقة أن العنصر المُرجح لقبول فيلم ما دون غيره، هو ما يملكه نسيجه من طموح فني، قادر على إثارة قدرًا ولو يسيرًا من الشهية التأملية. وفيلمنا – بطبيعة الحال – لا يخلو من تلك الإحداثيات.
فالأحداث تدور في قالب درامي؛ نتابع فيه حسام وشقيقه المراهق مارو، بعد الوفاة المفاجأة لوالدهما العامل في أحد مصانع الصُلب
فالأحداث تدور في قالب درامي؛ نتابع فيه حسام وشقيقه المراهق مارو، بعد الوفاة المفاجأة لوالدهما العامل في أحد مصانع الصُلب. وحتى لا تتفاقم الأمور وتصل إلى ساحات المحاكم، تلجأ الإدارة إلى الاستعانة بالشقيقين للعمل محل الوالد، مقابل تراجعهما عن الإبلاغ الرسمي. حكاية قد تبدو تقليدية في الهيئة الشكلية، وهذا صحيح بدرجةٍ كبيرة، لكن ما يُطمر بين طيات هذه الاعتيادية من تأملات وتساؤلات، يضيف إلى المحتوى قيمة مضاعفة، فالسرد الفيلمي يبدو مهمومًا بتقديم قصة ذات طبقات متداخلة، يملك كل منها زاويته الخاصة؛ فالطبقة الأولى المباشرة، معنية بالتقاط تيمة الانتقام. أما الطبقة الأخرى المستترة والتي يبدو السيناريو فيها مهمومًا بالأساس بالتعبير عنها، ألا وهي حصار المكان، وما يُبطنه من قسوةٍ، تلقي بظلالها الكثيفة على ما يعتمل في الداخل الإنساني. هذا ما تحمله القماشة السَردية من أفكار نظرية. فهل جاء التطبيق العملي موازيًّا لهذا الطرح الفكري؟

دخول مفاجئ
تبدأ المشاهد الأولى من الفيلم، بشجار حاد بين الشقيقين حسام ومارو، وبينهما الأم التي تسعى إلى فض الاشتباك الدائر بينهما. الأخ الأكبر حسام يرغب في ممارسة سلطاته على الأصغر مارو، ويرفض قاطعًا التحاقه بالعمل في المصنع. فاستكمال المراحل الدراسية أهم بالتأكيد، في حين يرى مارو أن من حقه المساعدة ولو بقدرٍ يسير. فما يثقل كاهل الأسرة من التزامات تفوق طاقتهم أجمعين.
فقد غلف السرد بطانته بجرعةٍ مكثفةٍ من الغموض، وبالتالي لا تفصح الشخصيات عن ما تضمره من دوافع
فقد اختار السيناريو أن تنطلق صافرة المباراة السردية مباشرة، دون سابق تمهيد. فالاقتحام المفاجئ لسردية تلك الأسرة، التي تبدأ حياتها الجديدة بعد رحيل الأب المباغت، وما يرافق هذه الحادثة العرضية المفاجئة، من توابع وملحقات أخرى، تمثل النسبة الأكبر من رقعة السرد، البالغة نحو 94 دقيقة؛ تنقسم تلقائيًّا إلى الفصول الدرامية الثلاثة، دون الحاجة إلى الاستعانة بأية انحرافات أو التواءات درامية حداثية، قد تكشف عن استعراض فحولة سردية أو إخراجية. وبذلك نُصبح وجهًا لوجه أمام إجابة يقينية للسؤال السابق ذِكره، فالمشاهد المتوالية تخبرنا أن هذا الاتفاق مع إدارة المصنع، لا يقابل بإرضاء أهواء الشقيقين. ومن ثم تتوالى الأحداث الكاشفة، فنعرف أن تلك الوفاة تحمل ورائها ما يثير الشبهات والمخاوف. فقد غلف السرد بطانته بجرعةٍ مكثفةٍ من الغموض، وبالتالي لا تفصح الشخصيات عن ما تضمره من دوافع، تحمل بذور انتقامية نحو تلك الإدارة، المتهاونة في اجراءات السلامة والأمان.
وهكذا تندفع المتوالية السردية نحو الأمام، لا من أجل بحثٍ محموم عن الذروة الدرامية المحتملة، لكن لجذب الكم الأكبر من التفاصيل الصغيرة – وتلك سمة الأفلام الكبرى حيث الانشغال بالشذرات اليومية – وهي تحفل بها البنية الدرامية، والتي عند محاذتها بجوار بعضها البعض، ستتضح المعالم الكاملة للبيئة العامة للأحداث، والتي تتضمن بطريقة أو بأخرى قراءة أشمل وأكثر اتساعًا لا عن المكان فحسب، لكن عن ما يقبع وراء هذا الحيز من إشارات ودلالات عن واقع أكبر.
جغرافية الهامش
يخلق السيناريو القطاع الأكبر من الأحداث، والتي تدور بين رحى مكانين لا ثالث لهما؛ الحيز الأول يقع بين حدود تلك المنطقة الجغرافية، التي يقع فيها منزل حسام ومارو، بينما المصنع يشكل المكان المقابل. وبنظرة بانورامية على الطبيعة الجغرافية لهذه الأماكن، يمكن بمنتهى السهولة، وضعها بين قوسي الهامش، فالشخصيات وأمكنتها وحدود معرفتها بالعالم الخارجي، لا تتخطى سُلطة هذا الهامش، في حين يقبع المتن في البعد، دون أن تلتقي به أعينهم.
وهل يملك المكان حقاً سطوة على مريديه؟
نجد العمال بالمصنع يقتربون بحرص وخوف من حسام، أو يبتعدون عنه خشية التلامس معه. وكأنه قادم من المدينة المسحورة
للإجابة على هذا السؤال، ينبغي إطالة النظر نحو الشخصيات وما تكنه من دوافع. البداية عند حسام، هذا الشاب العشريني، الذي هرب منذ سنوات من قبضة الأسرة، إلى براح حياة الجبل، رغم ما يحتويه من عناصر إجرامية. فالرغبة في الانطلاق من أسر هذا المكان الخانق، يُذيب أي مكونات صلبة، قد تعيق تلك الانطلاقة، ومن أجل إثبات تلك الحالة الغرائبية، نجد العمال بالمصنع يقتربون بحرص وخوف من حسام، أو يبتعدون عنه خشية التلامس معه. وكأنه قادم من المدينة المسحورة.
تلك الهالة الملحقة بحسام، تجذب الشقيق الأصغر مارو، حتى وإن بدا عكس ذلك، لكن عفوية الأفعال المضادة، تشير إلى وقوع الطفل في شِراك هذه الجاذبية اللامرئية.
وعلى الجانب المقابل، يحضر المصنع، بما يتضمنه من غموض كثيف. فالجميع يلتزم الصمت نحو حادثة الأب، في حين تخفي أعينهم شيء ما، ومن ثم تقدم الكاميرا الماكينات العملاقة، وكأنها وحوش تلتهم ضحاياها، مما يثير نحو المتفرج إحساسًا بالرهبة. وذلك إلى جانب الاشارات واقتباسات الحوار بين الشخصيات، عن قوة الماكينة وغدرها في الآن ذاته، فالماكينات تساوي الموت. وكل من اقترب منها، ستقع حياته تحت طائلة التهديد.
غياب الأب
هذا الحيز الخانق، تعبر عنه الكاميرا بزوايا مقربة؛ تحاصر الشخصيات بين أطرها الضيقة، وتكشف عن تلك العلاقة الشائكة مع مكان يلفظ قاطنيه
في فيلمه الوثائقي الطويل الأول، يطرح المخرج محمد رشاد، علاقته مع والده، بجانب تقديم صورة متعمقة المحتوى نحو جيل السبعينيات. وفي إطار متقارب يقول في أحد الحوارات الصحفية مع منصة فاصلة (2025): "أحيانًا نجد أنفسنا نعيد إنتاج حياة آبائنا حتى وإن كنا نرفض ذلك؛ نرث منهم ليس فقط الأشياء المادية، ولكن أيضًا القيم والأخلاق، وحتى المسارات الحياتية نفسها".
وبالعودة إلى هيكل السرد المحكم الصياغة، يمكن ملاحظة أن السياق الدرامي، يطرح معضلة غياب الأب، ويعيد تدويرها تلقائيًّا، في العلاقة الحساسة بين الشقيقين؛ الأصغر يلجأ إلى تلك العلاقة التعويضية مع الأخ الأكبر، سعيًّا إلى استكمال المنقوص لديه. وهكذا يقع الطرف الأخر للمعادلة عند حسام، حيث تمثل هذه العلاقة الوطيدة الصلة بينهما، عاملًا مساعدًا في تثبيت جذوره داخل أروقة المكان.
هذا الحيز الخانق، تعبر عنه الكاميرا بزوايا مقربة؛ تحاصر الشخصيات بين أطرها الضيقة، وتكشف عن تلك العلاقة الشائكة مع مكان يلفظ قاطنيه نحو المجهول. وفي كثير من الأحيان، يصبح هذا الغريب المجهول، انطلاقة مشروعة نحو بداية جديدة.