02-يناير-2020

صناعة الأحذية من مهن المزاينة في اليمن (فؤاد الحرازي/ الترا صوت)

للحديث عن ألقاب المزاينة في اليمن، لا بدّ من البدء عند هذه القصّة. عاش منيف، الشاب اليمني المقيم في مدينة جنيف السويسرية، قصة حب مع سميرة التي تسكن العاصمة صنعاء. تعرفا على بعضهما البعض عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وظلا على تواصل مستمر مدة عام، قبل أن يطلب منيف من عائلته في صنعاء زيارة عائلة سميرة وطلب يدها للزواج.

الجزارة من أكثر المهن الموصومة اجتماعيًا في اليمن!

أجاب والد منيف بأن يتريث نجله حتى يسأل عن عائلة سميرة. وبعد البحث والسؤال، وهي عادة اجتماعية تقليدية، اتصل الوالد بابنه في سويسرا، وأخبره بأن عليه إلغاء قرار الزواج من سميرة، ذلك أن عائلة سميرة "لا تناسبهم" اجتماعيًا لأنها تنتمي لطبقة "المزاينة". وهكذا انتهت قصة حب أخرى، ومشروع زواج آخر.

تُعد قصة منيف وسميرة غيض من فيض آلاف القصص الحقيقية تمامًا، التي تعكس واقعًا طبقيًا قديمًا في المجتمع اليمني، يُهمش المزاينة رغم حاجته لهم، ويجعلهم أدنى درجة ودرجات. فمن هم المزاينة؟

مهنٌ "محتقرة"

ألقاب المزاينة في اليمن، وألقاب "بني الخُمس" و"الناقصين" و"الطرف" و"قليلي الأصول" و"خط 110"، أسماء متعددة، تطلق على العمال والحرفيين وأصحاب المهن مثل الحلاقة والجزارة والحدادة وإصلاح الأحذية وقرع الطبول في الشوارع والمناسبات، وصناعة الفخار، وغيرها.

الطبالون في اليمن
 

ويُعاني هؤلاء تمييزًا عنصريًا متوارثًا من أبناء القبائل ورجال الدين والقضاة و"السادة" وحتى المزارعين، الذين يمثلون الشرائح الأعلى في الهرم الطبقي الاجتماعي للمجتمع اليمني، فيما يمثل المزاينة الشرائح الأدنى.

وحتى إن لم تتوارث مهنهم، فإن العنصرية تبقى متوارثة، فلا يتزوج أبناؤهم من غيرهم، ويُمنع أبناء الفئات الأخرى من مزاولة مهن المزاينة، وقد يصل الأمر للإبعاد والتبرء وأحيانًا القتل كما حدث في 2010 في مدينة القاعدة بمحافظة إب، عندما أقدم رجل على إطلاق وابل من الرصاص على صدر نجله لأنه عمل في جزارة. وفي التحقيقات، برر الأب جريمته بأن نجله "ألحق العار بالأسرة" لإصراره على العمل في محل جزارة، وهي من مهن المزاينة.

أصول المزاينة

وترجع أصول العنصرية ضد فئة المزاينة إلى مئات السنين، تحديدًا منذ عهد الأئمة، رغم أن المسمى نفسه أقدم من ذلك، بالرجوع إلى القرن السادس الميلادي.

يقول بلال محمد، الباحث اليمني في التاريخ، إنه "قديمًا، قبل دخول الإسلام إلى اليمن، كان يُطلق اسم المزاينة على الفُرس الذين أرسلهم كسرى الأول مع ملك اليمن سيف بن ذي يزن، لمساعدته على طرد الأحباش. وحكموا اليمن عدة قرون، محتلين مراكز اقتصادية مرموقة، وكانوا شديدي التأثير في الأحدث التي شهدها اليمن".

وفقًا للسرديات التاريخية، فهؤلاء الفرس الذي جاء بهم سيف بن ذي يزن، كانوا مساجين في فارس، واستقروا في اليمن، وتزوجوا من نسائه. ويشير البعض إلى أن المزاينة الآن، هم من نسل هؤلاء الفرس، وهو أمر لا أدلة عليه.

"نحن نمارس أعمالًا شريفة، والكثير منها مربحة ماديًا"، يقول محمد قطيره لـ"الترا صوت"، وهو شاب ينتمي لفئة المزاينة، يستنكر ما أسماها "المعاملة الدونية" التي يتعرض لها المزاينة "وإن كانوا يمتكلون الكثير من الأموال".

ويُذّكر قطيره بأن المزاينة في النهاية مواطنون في الدولة، يتمتعون بكافة الحقوق التي ينص عليها القانون دون تفرقة بينهم وبين غيرهم: "لن نسمح لأحد أن يصادر حقوقنا"، لكن لفئات أخرى من المجتمع رأي آخر!

تكريس العنصرية

في 26 أيلول/سبتمبر 1962 اندلعت ثورة ضد المملكة المتوكلية، انتهت بقيام الجمهورية العربية اليمنية. أتاحت الثورة الفرصة لأبناء فئة المزاينة الانخراط في المجتمع بشكل أكبر، وقد تبوأ بعضهم مناصب عسكرية وفي مختلف مؤسسات الدولة.

وبشكل جزئي، حققت ثورة أيلول/سبتمبر 1962 أحد أهدافها المتعلق بـ"إزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات"، من ذلك أن "المقهوي" أو العامل في المطاعم والمقاهي لم يعد يسمى مزين، وكذلك عازف العود والمغني والعامل في صناعة الطوب وبائع الخضروات والعامل في المغاسل التجارية. أي إن ثورة أيلول/سبتمبر 1962 أسقطت بعض المهن من تصنيف الدونية الطبقية في المجتمع اليمني، فيما بقيت مهن أخرى أكثر، داخل نفس التصنيف القديم الجديد.

بمرور الوقت أصبح الفصل العنصري أقل وطأة، فبعد أن كانت من مظاهر العنصرية منع اختلاط المزاينة بغيرهم، أصبح ذلك من الماضي بدرجة كبيرة. لكن بقيت بعض مظاهر العنصرية لم يستطع المجتمع تجاوزها، وعلى رأسها الزواج.

"بدون وعي، يتداول اليمنيون أمثلة شعبية تكرس للعنصرية ضد العاملين في بعض المهن"، يقول عبدالجبار ردمان، أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء، مضيفًا لـ"الترا صوت": "وكذلك استخدام أمثلة بغرض التحقير من المزاينة، رغم أنها أمثلة لا علاقة لها بالمزاينة على وجه التحديد، مثل: إذا غرتك الأصول دلتك الأفعال، والعرق دساس، وغيرهما من الأمثلة".

المزاينة في اليمن
 

يرى ردمان أن هذه من الأمور التي ساهمت في انطواء فئة المزاينة على أنفسهم بشكل شبه قسري، ومنعت كثير منهم من إكمال تعليمهم بسبب الخوف من "المعايرة"، فحتى إن لم يفصحوا عن مهن آبائهم، فإن ألقابهم تكشف هوياتهم.

مبادرات 

قبيل اندلاع الحرب الجارية في اليمن، أُطلقت حملات للقضاء على التفرقة العنصرية ضد المزاينة، منها حملة باسم "كلنا أبناء تسعة". ورغم أن هذه الحملات عُرقل نشاطها بسبب الحرب، إلا أن المبادرات التي طرحتها لا يزال يتردد صداها بين مجموعات تعيد طرحها الآن لإنهاء التمييز والعنصرية داخل المجتمع.

الصحفي اليمني رضوان الهمداني ممن يعيدون قضية العنصرية ضد المزاينة للواجهة، ويطرح للقضاء على ما يسميه بـ"الفرز العنصري"، إقرار قانون "صارم" لتجريم كافة أشكال التمييز والعنصرية. 

ويقول الهمداني لـ"الترا صوت": "ينبغي كذلك إصدار قانون بإلغاء الألقاب من بطاقات الهوية، كما الحال في رواندا بعد الحرب الأهلية"، مشيرًا أيضًا إلى "ضرورة نشر التعليم والثقافة، وتبني خطابات تركز على المساواة الإنسانية".

أسقطت ثورة أيلول/سبتمبر 1962، بعض المهن من تصنيف الدونية الطبقية في المجتمع اليمني، وبقيت معظم المهن داخل نفس التصنيف العنصري

من جانبه، يرى الناشط الحقوقي وليد الحيمي، أن المجتمع اليمني "يعاني تضاربًا بين ما يقول إنه يؤمن به دينيًا، وبين حقيقة واقعه المعاش"، مشيرًا إلى أنه في حين يُجهَر برفض العنصرية والتمييز على المنابر وفي المحاضرات والخطب الدينية، يشهد الشارع ومعاش الناس ألوان التمييز والعنصرية ضد عمال اليمن.