أطلقت القوات الفرنسية 21 طلقة مدفعية في عام 1951 احتفالًا بوصول تمثال الملكة زنوبيا إلى فرنسا لعرضه في أحد معارض البلاد بأمرٍ من وزير الثقافة الفرنسي آنذاك الأديب وعالم الآثار، أندريه مالرو، الذي كان معجبًا باثنتين من أقوى نساء الشرق، زنوبيا وماوية التنوخية، وقد تمردتا على واحدة من أقوى الإمبراطوريات في التاريخ، الإمبراطورية الرومانية.
استطاعتا توحيد شعوبهما بالرغم من الاختلافات الثقافية والإثنية التي كانت سائدة في المنطقتين اللتين حكمتاهما. لكن كيف تحوّلت المرأة في الشرق من ملكةٍ تُدير الممالك وتضع الخطط الحربية إلى "عورةٍ يجب أن تخفى قدر الإمكان" عند البعض؟
المرأة في الدراما السورية.. مرايا مكسّرة
لا يمكن النظر إلى حال المرأة في المجتمع السوري دون الأخذ بعين الاعتبار دور الدراما السورية بتكريس هذه الحال؛ فقد استطاعت الدراما السورية بما تملكه من ممثلين وكتّاب أكفاء أن تصل لبيوت السوريين باختلاف طبقاتهم وثقافاتهم، لكن ما الدور الذي اختارت أن تلعبه، تكريس المُثُل القديمة أم الثورة عليها؟
قدمت الدراما السورية في بدايتها امرأةً سورية قوية، يمكنها إدارة شؤونها لوحدها، وتشارك العمل والحديث السياسي مع الرجال، لا فرق بينها وبين الرجل في المجتمع، كما رأينا في أعمال مثل "حمام الهنا"، حيث كانت "فطوم حيص بيص" المرأة المستقلة التي تدير حمامًا كاملًا وترعى شؤونها لوحدها دون وصيّ أو آمر.
كذلك قدم العمل السوري الذي كتبه السيناريست دياب عيد "حمام القيشاني" المرأة السورية بصورتها المثلى؛ امرأة مثقفة تطالع الصحف والكتب وتدخل في الأحاديث السياسية والعمل السياسي، وتملك وعيًا يخوّلها أن تعرف ما يُحاك حولها من مؤامرات سياسية تلعبها الأحزاب المختلفة التي كانت منتشرة في القرن الماضي في سوريا، على عكس الصورة الحديثة التي باتت تنقلها الدراما السورية عن المرأة، فحين يبدأ الرجال بالحديث في السياسة تتململ المرأة وتتذمر، وتنسحب من الجلسة إلى مكانٍ آخر تتكلم فيه بمواضيع روتينية مع صديقاتها.
قدمت الدراما السورية في بدايتها امرأةً سورية قوية، يمكنها إدارة شؤونها لوحدها، وتشارك العمل والحديث السياسي، لا فرق بينها وبين الرجل في المجتمع، على عكس الصورة التي صارت تنقلها لاحقًا
ولا يمكن الحديث عن تكريس الدراما السورية لصورة المرأة المطيعة دون الحديث عن البيئة الشامية، فمع نجاح ما يسمى مسلسلات البيئة الشامية، وتحقيقها مبيعات لم يتوقعها أصحاب هذه الأعمال داخل وخارج سوريا، صار الكاتب السوري يتفنن في نحت الشخصية المطيعة للمرأة، ووضع لغةٍ جديدة تحفر في لاوعي المجتمع السوري كيفية التعامل مع المرأة من "بشختها عالبلوعة" و"العايبة" و"من إيمتى النسوان بتحكي رأيها" إلى "حريمة" و"وطّت راسنا"، وغيرها من الكلمات والاصطلاحات التي وضعها كاتب النص الشامي الذي يدّعي أنه يحكي واقع البيئة الشامية خلال القرن الماضي، متناسيًا الدور الحقيقي الذي لعبته المرأة في ذلك الوقت.
فلا ذكر للصحفيات السوريات اللاتي كسرن احتكار الرجال لميدان الصحافة، بتأسيس الصحافية، ماري العجمي، أول مجلة نسوية بعنوان "العروس"، ولا للصالونات الأدبية النسائية كصالون "نادي السيدات الأدبي" الذي تأسس في عام 1920، ولا للمناضلات السوريات أمثال، نازك العابد، التي شاركت يوسف العظمة القتال في ميسلون، وغيرهن كثيرات ممن كتبن تاريخ المرأة السورية الحقيقي، فمن أين أتت "العايبة" و"الحريمة"؟ ومن يوقف هذا الزحف الذي يتقصّد ترسيخ صورة المرأة المطيعة التي لا رأي لها ولا حَوْل؟
قلم حمرة.. دراما مضادّة
في عام 2014، وحين كان مسلسل "باب الحارة" يُعرض في جزئه السادس تم عرض مسلسل "قلم حمرة" للكاتبة السورية، يم مشهدي، وهو أكثر المسلسلات السورية إنصافًا للمرأة السورية، فقد عرض صورة بانورامية للمرأة السورية، نشاهد فيها معتقلة الرأي، وصاحبة الفلسفة العميقة، والأرملة التي تُعيل أبناءها، والعازبة التي تسعى لقصة حب وزوج جميل، والشابات اللاتي يطاردن أحلامهن على اختلافها. مزيج سكبت فيه الكاتبة أفكارها كاملة في شخصياته، وكأنه العمل الأخير لها. المرأة في هذا العمل ثائرة، قلقة، ومتعبة من الأحمال المزدوجة التي تحملها في مجتمعٍ يعتبر قدومها إلى الدنيا فأل شؤم، وتقول جداته إن: "البنت تجلب العار والعدو لباب الدار".
يقدم العمل صورًا مختلفة للمرأة؛ ويشرّح واقعها كما هو، فيعرض الأم الكبيرة التي تخجل أمام الجيران والأقارب لكون ابنتها كاتبة سيناريو ناجحة، إلا أن مسلسلاتها لا توافق هواهم الفكري، وتصف شخصياتها بالمنحلة أخلاقيًا، مما يجعلها تخجل أمام الآخرين من نجاح ابنتها، بينما تفخر بكون ابنها مسؤول صيانة في شركة سيارات أميركية، وحين تدعوها ابنتها للعشاء في مطعم صديقتها الذي يقدم الطعام والمشروبات الكحولية، تستنكر الأم عليها هذه الدعوة، مع أنّها تذهب برفقة أبنائها الشباب إلى مطاعم بلودان وصيدنايا بالرغم من تقديمهم للمشروبات الكحولية أيضًا؛ مشهدَين صغيرَين يحكيان لنا قصةً طويلة من الازدواجية والتمييز يعيشها مجتمعٌ يحكمه الأموات من قبورهم بأمثالِهِم وحكاياتهم، فهم "لما قالوا لي ولد اشتد ظهري وانسند، ولما قالوا لي بنيه مالت الحيطة عليّ"، وهم من أشاعوا أن "عقربتين على الحيط ولا بنتين بالبيت"، منذرين أن الفتيات شرّهن قادمٌ معهن لا محالة.
الشخصية الأهم في المسلسل هي، ورد (سلافة معمار)، المرأة التي اعتُقلت وتعفّنت في الزنزانة الانفرادية، وهلوست وكتبت وصبرت كما يصبر أعتى الرجال، وخرجت لتُكمل تمردها على كل السلطات التي ما تعبت تسنّ السكين على نحر المرأة؛ الحكومة بقوانينها، والمؤسسة الدينية، والرجال. واستطاعت بسخريتها اللاذعة، وواقعيتها المفرطة أن تنقلب على جميع هذه السلطات التي ما يزال الجميع يحاول محاصرة المرأة بها، ولم يُغفِل النص المرأة التي تسعى جاهدةً للحصول على زوجٍ بأسرع وقت، خوفًا من "العنوسة" و"البوار" كما تقول "جودي" (نظلي الرواس) الشخصية التي تسخر من سذاجتها ورد على الدوام، وتقول لها: "يلعن أخت عيشة النسوان إذا ما طول عمرها مربوطة بالزلم".
المرأة والدراما السورية.. نظرة شاملة
لا يمكن الثناء على الدراما السورية تجاه ما قدمته للمرأة، فلم تقدم الدراما السورية المرأة إلا كعنصرٍ ثانوي غالبًا في المشهد الحياتي الكبير، فالمرأة دائمًا عنصر مكمّل في الحياة، يمكن قتله متى ثَبُت أنه يشكل تهديدًا على الشرف، ويمكن خنقه متى أظهر تحررًا وآراءً مخالفة، فها هو، طلال (قاسم ملحو) يقتل أخته في مسلسل "لعنة الطين" بشكلٍ همجي وحشي، حين يضع فمها على مدخنة السيارة ويشعلها حتى تتحول الفتاة إلى جثة متفحمة قَتَلها بكل بساطةٍ لأنه يستطيع! وفيروز (روعة ياسين) التي اختارت الدراسة في خارج محافظتها فأهدرت عائلتها دمها، وأعلنوها ميتةً غيابيًا.
لا يمكن الثناء على الدراما السورية تجاه ما قدمته للمرأة، فلم تقدمها إلا كعنصرٍ ثانوي غالبًا في المشهد الحياتي الكبير، فالمرأة دائمًا عنصر مكمّل، يمكن قتله متى ثَبُت أنه يشكل تهديدًا على الشرف، ويمكن خنقه متى أظهر تحررًا وآراءً مخالفة
كل النساء في الدراما السورية مطاردات، ومهددات، ويمكن قتلهن في أي وقت وأي مشهد دون أن يحرك المخرج ساكنًا، ولم تجرب الدراما أن تقدمّ لنا نموذجًا جديدًا للمرأة يكسر الصورة التي اعتدنا عليها. نموذجًا بطلًا يُطلق العنان للمخيال الأنثوي في مجتمعنا، ويشكّل وعيًا يمكنّهن من بناء شخصيات قوية تعزز حضورهن في المجتمع، بل اختار أصحاب هذه الصنعة أن ينقلوا لنا قصصًا تعبنا ونحن نحاول لفلفتها، وأن يرسموا للمرأة نموذجًا يكرّس ضعفها وتبعيتها، ويكسر صورتها أمام المشاهد، ويخلق لديه مبررًا دراميًا لممارسة سلطته الأبوية على المرأة في المنزل والشارع والجامعة وأي مكان يتواجد فيه رجل وامرأة.
ولا يبدو الحاضر والمستقبل أحسن حالًا، بل يزداد انحدارًا، إذ يعمل المخرج السوري اليوم على تحويل دور المرأة إلى مجرد صورة جميلة تركز على المظهر الخارجي، بعيدًا عن إبراز مواهب التمثيل الفعلية التي ترضي الذائقة الفنية للجمهور، معتمدًا على جمال الشكل والبهرجة والرفاهية وطريقة اللباس لتشكيل صورة جديدة عن المرأة العصرية ترتبط بلباسها ومكياجها وحياتها المترفة فقط.
المرأة والدراما السورية.. نظرة مركّزة
الدراما ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل نحّات يعيد تشكيل الواقع، ومعلّم يدخل بيوت الناس دون استئذان ويترك أثرًا لا يُمحى في وعيهم، تنقل قضايا المجتمع وهمومه من خلال شخصياتها، وتمنح المشاهد فرصةً لتجربة ومعايشة مواقف حياتية قد لا يمر بها في حياته اليومية، وتعلّمه عمّا لا يعلمه، وتبني الوعي المجتمعي بطريقة تتجاوز اللغة المباشرة؛ فهي تروي الحكايات وتظهر الصراعات التي تتناول موضوعات حساسة كالعنف والتمييز والعدالة الاجتماعية، وعبر هذه القصص يتوصل الناس لفهمٍ أعمق لتحديات مجتمعاتهم، وإعادة النظر في قناعاتهم، فماذا نريد من الدراما السورية؟
على الدراما السورية أن تروي القصص التي لم تجد من يرويها، وأن تتجاوز حدود الحكاية التقليدية وتغوص في معاناة النساء اليومية، وتبرز قوتهن ومرونتهن في التعامل مع الصعوبات التي تواجههن
على الدراما السورية أن تروي القصص التي لم تجد من يرويها، وأن تتجاوز حدود الحكاية التقليدية وتغوص في معاناة النساء اليومية، وتبرز قوتهن ومرونتهن في التعامل مع الصعوبات التي تواجههن في حياتهن، وأن تلامس أحلام النساء التي غالبًا ما تظل حبيسة الجدران، وأن تُظهر أن أصواتهن مهما بدت خافتة يمكن أن تُسمع، وأن تكفّ عن رسم صورٍ سطحية للنساء، وتتعمق في دواخلهن، وتكشف الإصرار الذي يملكنه.
يُردن النساء أن يرين أنفسهن في شخصيات تناضل من أجل العدالة والمساواة، وتكسرن القيود التي فرضها المجتمع بمختلف مؤسساته، وأن تمنحهن الأمل وتذكرهن بأنهن قادرات على التغيير، وأن حياتهن ليست مجرد خلفية لأحداث أكبر منهن تدور في فلك الرجل، بل قصصهن هي التي تستحق أن تُروى بكل تفاصيلها.
وأن تكفّ عن تبرير العنف ضد النساء، الأمر الذي يشبه نحتًا غير متقنٍ في صخرة المجتمع، وهي اللحظة التي تتحول فيها الحكايات إلى سلاحٍ حاد يعيد تدوير الروايات القديمة في قالب حديث، لا يزال يرسخ المفاهيم البالية التي تجعل من الإيلام وسيلة للتعبير عن الحب والرغبة والغيرة، ومن الهيمنة شكلًا من أشكال الحماية.
فكل مشهد يبرر صفعة أو كلمة جارحة هو رسالة خفية تَغرِس في لاوعي المشاهدين أن السيطرة هي جزء من الرجولة، وأن المرأة التي تقبل بهذا العنف تحت مظلة الحب هي النموذج الذي يجب أن يُحتذى في هذه الحكايات يتحول العنف إلى لغة، ويصبح الضرب بديلًا عن الحوار، والتسلط رديفًا للحب، وخطورة الأمر تكمن في التفاصيل، في النظرات والإيماءات التي تجعل من المُعتدي بطلًا، تُغفر له خطاياه لمجرد أنه "يحب بطريقته الخاصة"، ويُعاد تشكيل الوعي المجتمعي ليقبل هذا العنف كجزء من طبيعة العلاقات الإنسانية. فالدراما التي كان من الممكن أن تكون سلاحًا للتحرر من الأفكار القديمة، تتحول هنا إلى أداةٍ لإعادة إنتاج العنف وتكريس الصورة النمطية للمرأة الخاضعة، المغفورة خطاياها بالطاعة والدمع.