06-أكتوبر-2022
امرأة أمام غرافيتي في طهران

امرأة أمام غرافيتي في طهران

لا يزال الجدل متصاعدًا في إيران بشأن قضية "الحجاب القسري" بعد أنّ أُعلنت وفاة مهسا أميني في ذات يوم اعتقالها من قبل "شرطة الأخلاق" الإيرانية، بتهمة عدم الالتزام بمعايير الحجاب الإسلامي المحددة بالقانون، إذ خلّفت شبهة وفاتها تحت التعذيب - كما أفادت عائلتها وعدّة مصادر- عددًا كبيرًا من الاحتجاجات الشعبية في مختلف مناطق الدولة بمظاهراتٍ مناهضة للحكومة الإيرانية.

تحولت قضية الحجاب في إيران من التزام ديني إلى إشكالية اجتماعية بأبعادٍ سياسية، بعد ما أن تم توظيف النصّ القرآني في ميدان السلطة الإيرانية التي اتخذت من آيات الحجاب فضاءً أيديولوجيًا يخدم اتجاهاتها السياسية

من عبادةٍ إلى تنميط :

تحولت قضية الحجاب في إيران من التزام ديني إلى إشكالية اجتماعية بأبعادٍ سياسية، بعد ما أن تم توظيف النصّ القرآني في ميدان السلطة الإيرانية التي اتخذت من آيات الحجاب فضاءً أيديولوجيًا يخدم اتجاهاتها السياسية، "مما أدخل الحجاب في بؤرة الخطاب السياسي للجمهورية ونقله من دائرة الفقه والثقافة إلى دائرة السياسة والقانون" (1)، والشاهد على هذا القول هو المغالاة في التأويل الفقهي والتوجه إلى أسلمة شكل لباس المرأة عبر فرض الحجاب قسرًا على جميع النساء داخل السياق الإيراني، مهما كانت جنسيتهنّ، وبغض النظر عن معتقدهنّ الديني، مسلمات أو غير مسلمات، مما أحال إلى التعامل مع كافة أوجه التعدد الهوياتي للنساء في المجتمع الإيراني من باب فرض هيمنة صورة أحادية للمرأة. وعليه، ستتناول المحاور الرئيسة في هذا المقال إشكالية "الحجاب القسري/الإجباري" في إيران من خارج المجال الفقهي، بطرحٍ سوسيولوجي بعيدًا عن الأحكام القيمية، باعتبارها انعكاسًا للأوضاع السوسيوثقافية والسياسية في الدولة، وحصاد نسق اجتماعي له تكوينه الأيديولوجي في البنى المختلفة.

رمزية الحجاب في الفضاء العمومي الإيراني

تسعى الحكومة الإيرانية إلى تنميط صورة المرأة في المجال العام من خلال قانون اللباس الذي يفرض الحجاب على كلّ مرأة موجودة داخل الدولة، ولكي نفهم الرمزية الدلالية من ذلك في السياق الإيراني لا بدّ من ذكر مستويات التحليل التالية، التي تبيّن كيف يقرأ الحجاب وظيفيًا في المجتمع.

أولًا، يعتبر الحجاب مرجعية اجتماعية يقاس عليها مدى التزام النساء، إذ يمثّل هويةً للمرأة الملتزمة بضوابط النظام الأخلاقي والاجتماعي العام، وينظر إليه على أنّه وسيلةً لضبط سلوكها وتفاعلاتها داخل المجتمع، أي أنّه معيار أخلاقي يحمّل المرأة مسؤولية مجتمعية. وعليه، يمكن القول إنّ ربط الحجاب بسلوك المرأة يعني أن المرأة في إيران تُعرّف من خلال هوية الجسد، فتكمن مخاطر هذا المنطق في اختزال القيمة الوجودية للمرأة في المجال العام بمدى التزامها بالممارسات الانضباطية المفروضة قانونيًا على خروجها من منزلها.

ثانيًا، ينظر إلى الحجاب على أنه الوسيلة التي تحمي بها المرأة ذاتها وجسدها من المضايقات الذكورية كالتحرش بكافة أشكاله والاغتصاب، وهذا يقودنا إلى الوظيفة الاجتماعية الثالثة للحجاب وهي أنّه إستراتيجية حماية للمجتمع من الفتنة والانحلال. وهذه الأخيرة نستدل عليها من فكر السلطة الإيرانية، إذ سبق وصرّح خامنئي بأنّه "إذا أردنا منع مجتمعنا من الانغماس في الفساد والاضطراب، يجب أن نبقي النساء محجبات" (2).

إنّ تناول القضية من هذه الزاوية هو للإشارة إلى الأيديولوجية الذكورية التي لا زالت تحمّل المرأة مسؤولية تعرضها للعنّف بكافة أشكاله؛ رغم ارتفاع نسبة ضحايا قضايا التحرش من النساء المحجبات عالميًا، إضافةً إلى التأكيد على تعدد مظاهر ممارسة السلطة على النساء بوصفها حالة مركبة من عوامل اجتماعية، اقتصادية، سياسية متداخلة وبنى ثقافية ترسخت في المخيال التربوي للتصورات الجندرية والقيم الخاصة بتشكيل الذكورة والأنوثة عبر ما يكّمن في موروثات منظومة المعايير والتقاليد التربوية، تلك الكيفية التي لا تزال تبنى بها النساء والرجال اجتماعيًا.

بالنظر إلى ما سبق، تفرز هذه الصورة التنميطية للمحجبة تباينًا في القيمة الاجتماعية على حسب نوع الجنس؛ ففي إطار التكوين الثقافي والمجتمعي داخل السياق الإيراني، وما ينتجه الأفراد من ممارسات تتكرس ثنائية مركزية الرجل وهامشية المرأة عبر التمييز التراتبي الذي يدعّم أولوية الرجل على المرأة في المجال العام؛ نظرًا إلى تقييد حضورها في المناشط العامة المختلفة باشتراطاتٍ ذكورية، مما يعني استمرارية التمثيل اللامتكافئ بين الرجل والمرأة، وإعادة إنتاج المجتمعات الأبوية وتوليد الهيمنة الذكورية داخل التركيبة الاجتماعية والثقافية.

التعامل الشرطي مع النساء

إنّ إدراج معايير للحجاب في القانون كجزء من منظومة سياسية أخذت على عاتقها وظيفة ضبط السلوك النسائي في المجال العام في السياق الإيراني، فرض صلاحية وجود رقابة شرطية على لباس المرأة، تنّفذها "شرطة الأخلاق" التي لها صلاحية إدانة المرأة التي لا ترتدي الحجاب أو لا تلتزم بمعايير لبسه، وهو ما أصطلح عليه قانونيًا بـ"الحجاب السيئ". بالتالي، لها الحق بفرض عقوبات على المرأة وفق القانون، إمّا بالحبس أو الجلد ب 74 جلدة أو بغرامة مالية (3).

إنّ إدراج معايير للحجاب في القانون كجزء من منظومة سياسية أخذت على عاتقها وظيفة ضبط السلوك النسائي في المجال العام في السياق الإيراني

يمكن النظر إلى شرطة الأخلاق أو شرطة الآداب بالمنظور الفوكوي لمعنى السلطة؛ إذ اعتبرناها كمؤسسات الضبط والتأديب والعقاب (المدارس والمستشفيات والسجون) التي يرى فوكو أنها سلطوية وتنتج سلطة، حيث إنها تمثل مؤسسات تخضع الفرد للمراقبة وتحدد له معايير وقواعد ومحددات للسلوك، عبر فرض ممارسات محددة بما يتوافق وغاياتها عبر ضبط سلوك المرأة وفق القواعد والضوابط القانونية والأخلاقية التي حددتها بوصفها آلية للضبط والمراقبة ولها حق فرض العقاب.

الحجاب كإستراتيجية مقاومة

يقول ميشيل فوكو: "أينما وجدت السلطة وجدت معها المقاومة"، وهذا ما نراه في القضية الإيرانية للحجاب بين فترتين تاريخيتين لنظامي حكم متضادين في طريقة توظيف الحجاب سياسيًا في نظامهما الحاكم. بصورةٍ أكثر تفصيلًا، يأخذ الحجاب في إيران شكلًا احتجاجيًا شعبويًا، سواءً بارتدائه كرمز للثورة على حكم البهلويين رفضًا على إرغام النساء في تلك الفترة على خلعه، أو بخلعه اليوم كرمز للاحتجاج على فرضه وفرض سلطة المراقبة على شكله ولونه ومدى الالتزام بمعايير الحجاب الإسلامي، التي ما أن لم يتم التقييد فيها إلى جانب عدم وضع مساحيق التجميل وارتداء الملابسة الفضفاضة يتم وفق القانون تجريم المرأة.

وهنا تظهر رمزية أخرى للحجاب، رمزية احتجاجية وآلية لمواجهة الواقع الاجتماعي، حيث أصبحت تستخدمه المرأة في خطاب شعارات الاحتجاج في الشارع الإيراني كوسيلة للتحرر من الإكراهات المجتمعية ومقاومة النظام والسلطة ومطالبة بالحرية.

استخلاصًا لما سبق، إنّ فرض أيديولوجية سياسية على الحجاب يعني، أولًا؛ تصاعد العنف ضد المرأة كنتيجة لتحويل مسألة الحجاب من قضية فردية شخصية (عبادة بين الذات وخالقها) إلى قضية اجتماعية يحق للشأن العام ليس فرضها فقط وإنما المراقبة والعقاب. ثانيًا؛ إبراز الطابع القمعي لحكم النظام الإسلامي في إيران، الذي فرضه بالإكراه ويتعامل مع غير المحجبات بالقوة، بعيدًا عن أساليب الإقناع والحوار، مما أساء لصورة الحجاب والدين الإسلامي وللمرأة التي ترتديه عن محض إرادتها.

حاصل القول إنّ الكيفية التي تتعامل بها السلطة مع قضية الحجاب تبين مدى سعيها إلى توظيف الفضاء الفقهي في تكريس أو تمثيل لهوية السلطة الحاكمة، ليصبح الحجاب بمثابة إقرار اجتماعي سياسي يضفي على المرأة الإيرانية ملامح ترمز لهوية المجتمع الإيراني كما تسعى السلطة الحاكمة إلى تشكيلها.


هوامش

  1. فاطمة الصمادي، "جدل الحجاب في إيران بين الديني والسياسي"، مجلة لباب، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، العدد 9 ، 2021)، ص 121
  2. فراس إلياس، "قضية الحجاب وإعادة تشكيل صورة النظام في إيران"، موقع نون بوست، تاريخ النشر: 22/09/2022، تاريخ الدخول: 25/09/2022 ، عبر: https://www.noonpost.com
  3. فاطمة الصمادي، مرجع سابق، ص 108