01-أغسطس-2019

مشهد من دون خوان تينوريو

لم تكن هذه المرة الأولى التي أستمع فيها إلى تلك القصيدة التي يُغنيها عبد الحليم حافظ وتحمل عنوان "حبيبها"، لكنّها كانت المرة الأولى التي أنتبه فيها إلى مقدمة تلك القصيدة المغناة التي تقول في كلماتها:

"حبيبها، لستَ وحدكْ حبيبها،

حبيبها أنا قبلك، وربّما جئتُ بعدك،

وربّما كنتُ مثلكْ".

ففور انتباهي لهذا المقطع خطرت على بالي صورة غريبة نوعًا ما، وهي صورة لامرأة تجلس وسط رفيقاتها تُحدثّهنّ عن مغامراتها في عالم الرجال، وتسرد عليهنّ قصصها وبطولاتها في هذا العالم، تُعدّ عليهنّ كم رجلًا أغوت، وكم رجلًا أغرت، وكم رجلًا أسقطته في حبائلها وأشراكها، تُخبرهنّ عن مواصفات حبيبها الحالي دونَ أن يُنسيها ذلك أن تَذكر لهنّ مواصفات أحبائها السابقين وربّما ابتكرت أمامهنّ لائحة تخيلية بمواصفات تريد لها أن تتواجد في شخصيات أحبائها اللاحقين.

الشخصية الدنجوانية هي شخصية مرهفة الحسّ بعيدة عن كلّ تبلّد، وليست فيها صفات الفسق والفجور المتأصلة عند شخصيات أخرى

فاجأتني مشهدية هذه المرأة المتخيلة بشدة، فهيَ مرتبطة بصورة امرأة غائبة عن التاريخ العربي والثقافة العربية تمامًا، وأقصد هنا صورة "المرأة الدنجوانة"، ففي مجتمعاتنا العربية ومنذ مئات السنين لم تُذكر "الدنجوانية" إلا كصفة مرتبطة بالرجال ومقصورة عليهم، بحيث تغيب عنها النساء تمامًا، ولا تُذكر كصفة مقرونة بهنّ إلا في بعض الحالات القليلة والشحيحة بل والنادرة.        

اقرأ/ي أيضًا: رواية "الثعالب الشاحبة".. من العزلة إلى التمرد بالمشي

وقد أعادتني تلك المشهدية المتخيّلة إلى كتاب كنتُ قد قرأته منذ زمن للمفكّر صادق جلال العظم ويحمل عنوان: "في الحبّ والحبّ العذري"، فالعظم يتطرّق في كتابه ذاك إلى الشخصية الدنجوانية، ويُخبرنا عن صفاتها وسماتها وأسرارها وكوامنها.

وبحسب الكتاب، فإنّ الشخصية الدنجوانية بشكل عام هي شخصية لها نموذج معين لا يقتصر على الرجال، فهي شخصية "لا تخضع بحدّ ذاتها لاعتبارات التذكير والتأنيث إلا عرَضًا ووفقًا للأعراف اللغوية الدارجة". أي أنّها تأتي في النساء كما تأتي في الرجال، فكما أنّ هناك "رجل دنجوان" هناك أيضًا "امرأة دنجوانة".

والشخصية الدنجوانية هي شخصية مرهفة الحسّ بعيدة عن كلّ تبلّد، وليست فيها صفات الفسق والفجور المتأصلة عند شخصيات أخرى تتيح لها ظروفها الاستمتاع بالجنس وقتما تشاء، فالشخصية الدنجوانية لا تريد أن يأتيها وصلها من المحبوب (رجلًا إن كانت امرأة، وامرأة إن كان رجلًا) على طبقٍ من الجاهزية، وإنّما بعد مشقة وتعب وكدّ وجهد وانتصار حقيقي تُحرزه ويجعلها تظفر بهذا الوصل.

ومثلًا فإنّنا حين نُسقط أعيننا على كتب التاريخ ونقرأ فيها أنّ الخليفة المتوكّل وطئ أربعة آلاف جارية فإنّ هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنّه كان دنجوانًا بأي شكل من الأشكال، وإنّما يعني هذا أنّه كان مجرّد فاجر فحسب. وحين تأتي القصص والروايات التاريخية لتُخبرنا أنّ الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك تمتّع بالنساء حتى ملهنّ فقال: "أتيتُ النساء حتى ما أبالي امرأة أتيتُ أم حائطًا"، فإنّ ذلك لا يعني أبدًا أنّ هشامًا كان شخصية دنجوانية بأيّ حال من الأحوال بل يعني أنّه كان مجرّد فاسق لا أكثر.

وإنّ الكاتب المسرحي موليير في مسرحيته المسماة "دنجوان" قد نجح تمامًا في تصوير تلك الرهافة المتأصّلة في كوامن تلك الشخصية التي يدفعها شغفها بالجمال إلى البحث عنه في المحبوب، حيثُ يقول على لسان "دنجوان" بطل المسرحية: "ماذا؟ تريد أن نتقيّد بأول حبّ وننقطع إليه، رافضين من أجله العالم، ولا نعود ننظر إلى أي إنسان آخر في الدنيا بسببه؟ جميلٌ منا أن نتباهى بهذا الشرف المزيف، شرف أن نكون أوفياء فندفن أنفسنا إلى الأبد في حبٍّ واحد يقتل فينا منذ الشباب كلّ ميل في الاستجابة لأنواع الجمال المختلفة التي نقع عليها. كلا، كلا، الثبات لا يُناسب إلا البسطاء والحمقى وحدهم، فمن حقّ كلّ امرأة جميلة أن تفتننا، كما أنّ مصادفة التقائنا بواحدة منهنّ قبل غيرها لا تجرّد الأخريات من حقهنّ في غزو قلوبنا. أما بالنسبة لي فإنّ الجمال يهزّني ويسحرني أنى رأيته، فأستسلم بسهولة لقوته الحلوة التي تجذبنا نحوه. إنّ الحبّ الذي أكنّه لامرأة جميلة لا يجعل قلبي قادرًا على الإجحاف بحقّ الأخريات".

وبالحديث عن المرأة الدنجوانة خصوصًا، فقد تحدّث الكثير من المفكّرين وعلماء النفس أنّ هذه المرأة إنّما تمتلك نفس مواصفات الرجل الدنجوان، فهي تمتلك مواصفات جاذبية خاصة تستخدمها للإيقاع بأحبائها من الرجال.

وإنّ التاريخ الإنساني -سواء في الغرب أو في الشرق- حافل بالعديد من النماذج النسائية التي يُمكن اعتبارها بمثابة نماذج لشخصيات دنجوانية نسائية بحقّ.

فمثلًا يَورد أحد الكتاب الفرنسييين -ممن اهتموا بموضوع- الحبّ حديثه عن الإمبراطورة مسالينا باعتبارها نموذج لشخصية المرأة الدنجوانة ويقول بأنّها الأخت التوأم لكازانوفا والدنجوان. كما يأتي كتاب الأخوين جونكور الذي يتحدّث عن المرأة الفرنسية في القرن الثامن عشر ليذكر لنا العديد من الامثلة عن الدنجوانات ومغامراتهنّ.

أما في السياق العربي، فإنّ هناك بعض الكتب العربية التي تحدّثت عن المرأة الدنجوانة التي تتمتّع بدرجة كبيرة من الثقافة والفتنة والذكاء ولا تجد حرجًا من أن تتوسّط المجالس لتتحدّث عن مغامراتها الجنسية والعاطفية، حيثُ قامت تلك الكتب بوصف شخصيتها وأدقّ تفاصيلها، ومن ذلك ما ورد في أحد كتب الجاحظ الذي قال عنها:

"لا تكاد تُخالص في عشقها، ولا تناصح في ودّها، لأنّها مكتسبة ومجبولة على نصب الحبالة والشرك  للمتربطين ليقعوا في أنشوطتهما. فإذا شاهدها المشاهد رامته باللحظ، وداعبته بالتبسّم... فإذا أحسّت بأنّ سِحرها قد تقلّب فيه وأنّه قد تغلغل في الشرك، تزيدّت فيما كانت قد شرعت فيه، وأوهمته أنّ الذي بها أكثر ما به منها. ثمّ كاتبته تشكو إليه هواها وتُقسِم له أنّها مدت الدواة بدمعها... وأنّها لا تريد سواه ولا تؤثر أحدًا على هواه، ولا تنوي انحرافًا عنه".

ويذكر الجاحظ عن صفات دنجوانته كذلك خفتها ومرونتها وسرعة حركتها وقدرتها على مغازلة أربعة رجال والفوز بقلب كلّ واحد منهم وكأنه هو حبيبها الأوحد والوحيد. حيثُ يقول عنها: "وأكثر أمرها قلة المناصحة، واستعمال الغدر والحيلة في استنطاف ما يحويه المربوط والانتقال عنه. وربّما اجتمع عندها من مربوطيها ثلاثة أو أربعة على أنّهم يتحاملون الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء، فتبكي لواحد بعين، وتضحك لآخر بعين، ونغمز هذا بذاك، وتُعطي واحدًا سرّها والآخر علانيتها، وتُوهم أنّها له دون الآخر، وأنّ الذي يظهر خلاف ضميرها، وتكتب لهم عند الانصراف كتبًا على نسخة واحدة، تذكر لكلّ واحد منهم تبرمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم".

هناك بعض الكتب العربية تحدّثت عن المرأة الدنجوانة التي تتمتّع بدرجة كبيرة من الثقافة والفتنة والذكاء ولا تجد حرجًا من أن تتحدّث عن مغامراتها

أخيرًا، فإذا كان هذا التغييب لصورة المرأة الدنجوانة في الثقافة العربية هو تغييب متعمّد بسبب العرف أو الدين اللَذان يُمثّلان الرافدين الأكبر لهذه الثقافة حيثُ يجيئان بما يُدين هذه الصورة ويُجرّمها ويربطها بمسألة غياب الشرف والأخلاق، فإنّ الحضور الكبير لصورة الرجل الدنجوان في تلك الثقافة لهو الدليل الأكبر على أنّ هناك حاجة ملّحة للنساء إلى رفع طلبات المساواة بينهنّ وبين الرجال في هذه المسألة أيضًا، فالتجريم إذا كان سيحصل فعليه أن يتمّ لصورة "الدنجوانية" في الجنسين، في صورهم وصورهنّ.

اقرأ/ي أيضًا: كيف يستخدم العلماء والفنانون أحلامهم في عملهم الإبداعي؟

أما أن يكون التجريم مقتصرًا على صورة المرأة الدنجوانة فقط دون أن يَترافق ذلك مع تجريم مماثل لصورة الرجل الدنجوان، وعلى العكس من ذلك، جعل هذه الصورة تحضر في أشكال احتفالية تحتفي بالفحولة والرجولة التي تتضمنها، فإنّ ذلك يعني أنّ التجريم هو تجريم عنصري ومنقوص ومزدوج المعايير لا ينظر إلى المسألة برمتها من منظار أخلاقي أو قيمي وإنّما من ثُقب ذكوري ضيق يرى في أنّ الدنجوانية حلالٌ على الرجال وحرامٌ على النساء؛ لا لشيء إلا لنون النسوة التي ترتبط بهنّ ويقترنَ بها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بابلو نيرودا في رواية جديدة لإيزابيل الليندي

مقتل ألبير كامو.. سر المخابرات السوفييتية