25-أكتوبر-2017

الروائي الجزائري جلال حيدر

صدمة خاصّة

قرأنا رواياتٍ كثيرةً اشتغلت على الصدّمات، التي حصلت للمجتمع الجزائري، أحيانًا بعبقرية واضحة، لكننا قلّما قرأنا رواياتٍ صادمةً بذاتها. بحيث لا ندري، ونحن نقرأها، هل نرميها أم نكملها، أو ندري، بعد أن ننهيها، هل نحرقها أم نعيد القراءة من جديد؟ لتكون بؤرة الصّدمة فيها هي نفاقنا وقناعنا واهتزازنا نفسه. وتأتي رواية "المذياع العاق" (دار القرن الواحد والعشرين، 2017) لجلال حيدر لتنضاف إلى قائمة الرّوايات الجزائرية الصّادمة.

تناقض خاص

ما أشبه الصّدمة، التي تسبّبها هذه الرّواية لمتلّقيها بالفلفل الحارّ! إذ يتحوّل في لحظة ما من عقوبة إلى فاتح للشهية، فنعوّض زهدنا فيه بسبّنا له مع الاستمرار في أكله حتى نمسح الصّحن كلّه!

هل يمكن أن نقول عن الذّات الكاتبة لهذه الرّواية إنها وقحة؟ بذيئة؟ "ما تحشمش"؟ إن الحكم عليها من الحكم على ما يلي: شاب بالغ لدغته عقرب في عضوه. هل يلتزم بالأعراف، فيحجبه عن الطبيب؟ أم بدواعي حفظ النفس، فيبادر إلى فتح سحّاب السّروال بنفسه؟

صورة خاصّة

معظم شخوص الرّواية من البشر، الذين نلتقيهم في يومياتنا، ونتبادل معهم أفعال الشّرب والأكل والسّفر في يومياتنا، ونتمنّى أن نكون أحرارًا وشفّافين وواضحين مثلهم، لكنّنا نتهرّب من أن نلتقط معهم صورًا وننشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، أو نعترف لعائلاتنا بمعرفتنا لهم! لأنه محكوم عليهم بالانحراف في النظر العام، فمنحوا لأنفسهم ـ بهذا ـ صفة "المتمرّدين"، ومنحنا لأنفسنا صفة "القطيع".

تماهٍ خاص

عانق الشّعرُ السّردَ داخل "المذياع العاق"، في سحاقية إبداعية لذيذة، ننسى معها الجنس الأدبي والجنس الجسدي، ونقف مشدوهين أمام عبقرية الكتابة في فضح الجنس البشري، وهو يقترف البشاعات المختلفة باسم شرعيات الأرض والسّماء.

جرأة خاصّة

كلّ ما في الرّواية من أفعالٍ وحالاتٍ ومواقفَ، معروف للقارئ الجزائري أو للعارف بالحياة الجزائرية من الأجانب. مع ذلك فإنه يقف، في كلّ مفصل من مفاصل الرّواية، من جرأة الذّات الكاتبة في تعرية الأشياء وتسميتها كما يجب أن تسمّى انطلاقًا من آثارها البشعة لا من الأحكام الجاهزة عنها. كم من رواية اشتغلت سابقًا على التواطؤ المشترك بين المؤسّسات السّياسية والثقافية والدّينية والاجتماعية والاقتصادية على تغطية الشّمس بالغربال؟

مكان خاص

فهم قطاع واسع من الرّوائيين الجزائريين عبارة "العالمية تبدأ من المحلّية" مغلوطةً، ففخّخوا متونهم بالأشكال الخارجية لقراهم عوضًا عن روحها ومخيالها، حتى أن بعض المتون تحتاج إلى هوامشَ شارحةٍ لتفهم، بما يُشوّش على لحظة القراءة. بل إن البعض وقعوا في منطق الابتذال والمتاجرة بكونهم ينحدرون من بيئة موغلة في المحلّية والعزلة والحرمان، مراهنين على التعاطف مع إنسانها ومكانها، عوض المراهنة على الإبداع في نقل روحهما وملامحهما وأشواقهما.

من هنا، كان وعي رواية "المذياع العاق"، عاليًا بهذا المعطى، فتجنّبته بما يجعل المتلقّى يتماهى مع البيئة الشّاوية الأمازيغية، واحة الولجة، التي شكّلت فضاءها، بدل الاكتفاء بالتعاطف معها. إنها واحدة من المظاهر، التي كسرت بها الرواية أفق انتظار القارئ.

هوية خاصّة

يتساءل أحد النّقاد: "هل يستطيع وزير داخلية السّودان أن يجرّد مصطفى سعيد بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشّمال" للطيّب صالح من جنسيته السّودانية رغم أنه شخصية ورقية متخيّلة؟". إلى آخر الروايات، التي قدّمت لنا شخصياتٍ أصليةً نتذكّر أوطانها بها، ونحبّها ونشتاق إليها كما لو كانت لنا ذاكرات مشتركة معها في الواقع. لقد انضاف "العلمي" بطل رواية "المذياع العاق"، إلى قائمة هذا النّوع من الشّخوص. علمًا أن عنوان الرّوية "المذياع العاق" هو اسمه المستعار، الذي يناديه به أصحابه.

وأنت تقرأ مسار/ صعود/ انحدار "العلمي"، ستجد نفسك تطرح هذا السّؤال: "هل يشبهني؟"، عوض السّؤال التقليدي الجاهز: "هل يشبه الكاتب؟"، وهو السّؤال المفخّخ بمسامير المراقبة، ممّا دفع قطاعًا واسعًا من الرّوائيين إلى الحرص على عبارة: "كلّ شخوص وأحداث هذه الرّواية من وحي الخيال".

كاتب خاص

عرف جلال حيدر بكونه ناشطا فيسبوكيًا مدمّرًا لكلّ الزوائف الاجتماعية والدّينية والثقافية، في الفضاء الجزائري، قبل أن يعلن عن نفسه روائيًا، ممّا وضعه في صدارة النشطاء، الذين يخلقون الرّعب في نفوس كثيرة. وهو هنا ينقل رعبه إلى محتكري الواجهة الرّوائية، ويحشرهم جميعًا بهذا السّؤال: هل كنت سألحق بكم، أنا ومن يشبهني، لو أنكم حلّقتم فعلًا، ولم تكتفوا بكتابة نصوص كسيحة وعرقلة ظهور أمثالي؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

"جنوب الملح".. رواية اليتم الأبدي

إعادة الاعتبار إلى شاعر الثورة الجزائرية