15-ديسمبر-2022
دوار في لوس انجلوس

مشهد في لوس أنجلوس

في واحد من أحياء لوس أنجلوس الفقيرة، والذي تقطنه أغلبية لاتينية، نصبت السلطات البلدية، على مستديرة تربط شوارع ثلاث ببعضها البعض، عددًا من المقاعد المصممة بمزاج فنان. تمر السيارات حول المستديرة غير عابئة بما تحتويه. وحدها كتابات الغرافيتي تتزايد على الجدران الخفيضة، التي تسور المستديرة، يومًا بعد يوم. فيما المقاعد التي تشبه أديرة صغيرة تنظر إلى المارة والعابرين في سياراتهم بأفواه فاغرة. لم تستخدم هذه المستديرة وفق الغرض الذي ربما دار في روع مسؤولي البلدية. لم تستخدم هذه المقاعد أصلًا. وحتى لو سلمنا أنها موضوعة هناك بغرض تصويرها من وقت لآخر. فيمكن القول إن فشلًا أحاق بهذه الوظيفة بكل تأكيد. فالمستديرة تقع على تقاطع 3 شوارع غير سكنية في معظمها، ورغم أن النهر الوحيد الذي يعبر لوس أنجلس لا يبعد عن حافة المستديرة إلا بضعة أمتار، إلا أن هذه المنطقة بسبب وظيفتها الاقتصادية تظل مقفرة من المشاة والمتنزهين طوال أيام السنة.

نحن نعاين المدن بمقدار ما تعرض علينا من فنونها. فنون العمارة، فنون الموزاييك على جدران المترو وفي الأنفاق، التماثيل المنحوتة في الحدائق العامة، الأشكال الهندسية التي تزخر بها حدائق المدن وملاعبها

ما الذي تريده السلطات البلدية من إقامة هذا النصب في هذا المكان؟ ذلك أن المقاعد، المشلولة وظائفها، باتت تشبه الأنصاب أكثر مما تشبه المقاعد.

الأرجح أن مصممي هذا النصب كانوا يدركون أن أحدًا لن يشغل هذه المقاعد. فوقوعها داخل مستديرة على تقاطع طرقات مزدحمة يجعل من الصعب على المارة، حتى لو أرادوا، أن يعبروا هذه الطرقات المزدحمة إليها، وإن عبروا، وجلسوا في تلك المقاعد، فإنما يصبحون على نحو ما مادة المشاهدة، بخلاف ما تكون عليه وظيفة الجلوس في المقاعد، حيث يصبح العابرون هم مادة المشاهدة والمراقبة من قبل الجالسين. كما لو أن مصممي هذه المقاعد أرادوا أن يجعلوا منها لوحة يمكن مراقبتها من قبل العابرين في سياراتهم. ولو حدث أن شغلها بشر لأي سبب من الأسباب، فالأرجح أنها ستتحول إلى مادة فنية معتبرة ومرئية. وتتحول عن واقعها المهمل إلى مستقبل دعائي وإعلاني، ولا سبب يمنعه أن يكون فنيا.

الفنون. هنا بيت القصيد. نحن نعاين المدن بمقدار ما تعرض علينا من فنونها. فنون العمارة، فنون الموزاييك على جدران المترو وفي الأنفاق، التماثيل المنحوتة في الحدائق العامة، الأشكال الهندسية التي تزخر بها حدائق المدن وملاعبها، وأيضًا لافتات المحال التجارية، وديكوراتها التي تتضمن لوحات وتماثيل. المدن التي تعرض فنونها توحي للزائر أنها مدن مستريحة من عناء التعب. تقول له إن أهلها ليسوا إنجليز القرن الثامن عشر الذين يعملون طوال نهاراتهم وينامون طوال لياليهم. وليسوا أبناء الطبقة العاملة الذين لا يملكون غير قوة عملهم، وعليهم أن يحافظوا عليها بالنوم مبكرًا. الفنون المعروضة للعامة والمارة في المدن هي عبارة هذه المدن عن أنها متسعة للمتعة والراحة، وأن وقت أهلها متسع لاختبار أشياء كثيرة سوى تدبير شؤون عيشهم الصرف. وحين توضع هذه المنحوتات الفنية في مكان يغلب على ساكني جواره الفقر والعوز، فلن تكون أكثر من إعلان فج من السلطات أنها تملك الفضاء والمكان، وأنها يومًا ما ستصلح أحوال هذه المناطق وتطرد فقراءها منها. في المقابل، تبدو كتابات الغرافيتي على هذه الجدران الخفيضة كما لو أنها تقول لهذه السلطات: نحن من يقطن في هذا المكان، ونحن من سيبقى فيه، وسيبقى مكانا أهليًا وعصيًا على السلطات.