حين شُيّدت الخيام الأولى في عتمة التهجير، لم يكن أحد يظن أن القماش سيصير إسمنتًا، وأن المؤقت سيفرد ظله الثقيل على أكثر من سبعين عامًا من النفي المستمر. كان المخيم فكرة عابرة. قالوا: "سنعود قريبًا"، وهم يغرسون أوتاد الخيمة على عجل، يحتفظون بالمفتاح في جيوبهم، ويحلمون بالقرى التي هُجّروا منها. لا يزال دخان القهوة يتصاعد في الذاكرة.
لكن المخيم طال
بدأت الهجرات الأولى بعد نكبة عام 1948، وما تلاها من مآسٍ لا تزال ترخي بثقلها حتى اليوم. وصل جدي إلى سوريا لاجئًا، وبنى بيتًا عربيًا في أحد سهول الصالحية جنوب دمشق، على أرض استأجرتها "الأونروا" لمدة 99 عامًا. هكذا بدأت ملامح ما صار لاحقًا مخيم اليرموك. مثله مثل كثير من المخيمات الفلسطينية في سوريا، نشأ فوق أرض جرداء على أطراف المدن الكبيرة.
بدأت الهجرات الأولى بعد نكبة عام 1948، وما تلاها من مآسٍ لا تزال ترخي بثقلها حتى اليوم
صار المخيم جغرافيا جديدة لليأس، وللصبر، وللحب، وللتناسل داخل ما لا يمكن احتماله. صار مدينة غير معترف بها، وطنًا مكبّلًا بالجدران، وفي كثير من الأحيان: صندوقًا أسود للنكبة المفتوحة.
تحوّلت السردية سريعًا إلى حلم التحرير والعودة. أطلقنا أسماء القرى والشهداء على الحارات، علّقنا الصور، وعاصرنا الثورات كلها بنشوتها وانكساراتها. خرجنا متظاهرين دفاعًا عن وطن لا نعرفه إلا من خلال قصص الجدات، أو من مفكرة جدي التي وثّق فيها سقوط حيفا في أيدي العصابات الصهيونية. تحوّلت حيفا إلى شارع خلفي لحارة منزلنا الكائن في منتصف اليرموك، تحت رقم جادة 13.
منذ البداية، كان في تشكيل المخيمات شيء من اللايقين. جدي علّم والدي وعماتي وأعمامي أن العودة لا تتحقق إلا بالكفاح المسلح، من حارات المخيمات إلى حدود الوطن المغتَصَب. الجيل الثاني بيننا التحق بالفصائل، وحلم برصاصة أولى تعيده إلى شجرة الزيتون والبرتقال في قريته الأصلية.
تحوّلت المخيمات إلى خزانات بشرية، وقواعد عسكرية وفكرية لتثبيت حق العودة. منها خرجت تهديدات كثيرة، فمحا بعضها كمخيم تل الزعتر، أو حاصرها ودمرها كما حدث لمخيم اليرموك.
ثم جاء جيل ثالث، ورث فكرة فلسطين من خلال قصص الآباء، لكنه بدأ يرى في البؤس الرومنسي فخًا أرادت الدول العربية ترسيخه، حين شيّدت بيوتًا إسمنتية بدلًا من الخيام، ومدارس زرقاء بألوان الأمم المتحدة بدلًا من المدارس الحكومية.
كان انعدام اليقين يتكثف
صار السفر ملاذًا للهروب من الخدمة العسكرية. فقد أسست الدول العربية، التي ظلّت تحت قانون الطوارئ منذ نكسة حزيران، تشكيلات لتجنيد الفلسطينيين تحت اسم "جيش التحرير الفلسطيني". سمعت قصصًا عديدة عن محاولات الهرب، لا لأنهم لا يريدون القتال، بل لأنهم أدركوا أن الطوارئ لم تكن طارئة إلا على هويتهم.
في أحد الأفلام الوثائقية عن شباب اليرموك، تحدث الشهيد حسان حسان، وهو مسرحي وناشط فلسطيني، عن جدته التي كانت تنتظر بيتها الأول كعروس جديدة، قبل أن تسرق النكبة كل شيء. هكذا بدت العودة، لا كحلم سياسي، بل كحياة مسروقة.
مع الألفية الجديدة بدأ المخيم يفقد صورته الرومنسية. بدأنا، نحن الجيل الرابع، نعي أن "بطاقة الإقامة المؤقتة" لم تعد مجازًا سياسيًا، بل عائقًا حقيقيًا أمام مشروع العودة. وفي الوقت نفسه، تحوّل المخيم إلى ساحة ثقافية تربي المراهق الفلسطيني على حب وطنه، وتعلّمه أن الكفاح ما زال ممكنًا ما دام هناك مخيم.
وأعترف، وقعتُ في حب المخيم
صار أكثر من مكان. أكثر من محطة. صار ذاكرة، كما كتب إدوارد سعيد. كتب عن "ذاكرة المكان" بوصفها المساحة التي يعيش فيها المهجَّر: ليس المكان الفعلي، بل ما تبقى منه في الوعي، في اللغة، في الحلم. ذاكرة لا تبقى على حال، بل تتشظى مع كل نزوح جديد، مع كل خيمة تُحرق، مع كل موت يُكتب على بوابة العودة المؤجلة. وهذا التهجير المستمر، الذي لا يرحم جيلًا دون آخر، جعلنا نرث الشتات كأننا نرث الاسم.
ثم جاءت الثورة السورية
أُغلِقت المدارس، وتحول المراهق منا إلى عامل إغاثة – أو هكذا أراد النظام. خرجنا في مظاهرات كبيرة، رفضًا للقتل، وتأكيدًا على وحدة الدم الفلسطيني السوري. احتضنت المخيمات إخوتها من المناطق المجاورة، لكنها أصبحت على صفيح ساخن. لم يكن النظام يفرّق بين فلسطيني وسوري. كلنا أصبحنا تحت خط النار.
وهكذا استُخدمت المخيمات كذريعة. فُجّرت، وقُصفت، ودُمّرت. لم تعد بيوت المخيم بيوتًا، بل شظايا على الذاكرة. فركبنا البحر مرة أخرى. أصبحت العودة إلى المخيم تعادل العودة إلى فلسطين.
أبناء جيلي شهدوا المخيم في ازدهاره، لا في بؤسه، وارتبطت به مشاعرهم الأولى، فصار الوطن الحقيقي لا في الصور، بل في تفاصيل الحياة اليومية بين أزقّة اليرموك.
تحوّلت المخيمات إلى خزانات بشرية، وقواعد عسكرية وفكرية لتثبيت حق العودة
صرنا نرث التروما كما ورثنا الشتات
صدمة أن ترى بيتك يُقصف وأنت في قارة أخرى. صدمة أن يتحول كل ما عشته إلى فيديو مدته 45 ثانية. وبسبب تلك التروما كتبت سبعة نصوصٍ شعرية ودّعتُ بها اليرموك، وكان آخر نص باسم محكمة عسكرية.
ثم جاء 7 أكتوبر. لا كحدث، بل كارتطام
اليوم الذي فُتح فيه الجرح كله. اليوم الذي أعاد فلسطين إلى الطاولة، لا كقضية تضامن، بل كحقيقة لا يمكن تجاهلها. صار السؤال اليومي في أوروبا: "هل ترى الصورة؟"، حتى إن لم يرد أحد أن يراها.
غزة اليوم ليست مجرد خبر. بل مرآة
والعالم المتحضّر يراها كل يوم، حتى حين يشيح بوجهه.
وغزة، كالمخيم، وكالنكبة، لا تختفي حين تتجاهلها. إنها تظل هناك، تحفر في الذاكرة، وتربّي جيلًا جديدًا لا يعرف سوى أن الظلم لا يصير قانونًا لمجرد أن له متحدثًا رسميًا.