المحكمة الجنائية تُقيّد مدّعيها العام مع اقتراب ملاحقة مسؤولين إسرائيليين جدد
29 ابريل 2025
في تطور بالغ الدلالة على مسار التحقيقات الدولية في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تجد المحكمة الجنائية الدولية نفسها أمام اختبار صعب لمدى قدرتها على تطبيق العدالة بعيدًا عن الضغوط والإملاءات السياسية.
فقد كشفت صحيفة "الغارديان"، عن صدور أمر سري من قضاة المحكمة يُلزم المدعي العام كريم خان بعدم الإعلان عن أي طلبات جديدة لمذكرات توقيف، وذلك في خطوة تُفسَّر على نطاق واسع بأنها تعكس توترًا داخليًا متزايدًا داخل أروقة المحكمة، وضغوطًا خارجية تمارس على المحكمة.
القرار، الذي يأتي في وقت يُعد فيه خان لجولة جديدة من طلبات أوامر الاعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين متورطين في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخاصة في الضفة الغربية، حسب مصادر مطلعة على مجريات التحقيق.
كشفت صحيفة "الغارديان"، عن صدور أمر سري من قضاة المحكمة يُلزم المدعي العام كريم خان بعدم الإعلان عن أي طلبات جديدة لمذكرات توقيف
من الشفافية إلى الكتمان
يمثل القرار القضائي قطيعة واضحة مع الاستراتيجية العلنية التي تبناها كريم خان منذ توليه منصب المدعي العام للمحكمة عام 2021، والتي قامت على الإعلان المسبق عن عزمه تقديم طلبات مذكرات توقيف في عدة قضايا، من بينها ملفات تخص ميانمار، حركة طالبان، والقيادات العسكرية في السودان. وقد برر خان هذه السياسة بأنها تهدف إلى ردع الانتهاكات المستمرة، إلا أن هذه المقاربة أثارت انتقادات متزايدة، لا سيما من داخل المحكمة نفسها.
ووفقًا لتقارير داخلية، فإن هذه الاستراتيجية أثارت توترًا كبيرًا بين خان وهيئة القضاة، وأثارت أيضًا انزعاج بعض أعضاء مكتبه، الذين رأوا أن إعلان خان المسبق عن نواياه بخصوص الانتهاكات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتناوله الأمر علنًا عبر مقابلات وبيانات مصورة، قد وضع القضاة تحت ضغط سياسي وإعلامي غير مسبوق.
ويبدو أن هذا التوتر دفع المحكمة إلى تقليص هوامش حركة خان، في محاولة لحماية استقلالية القضاة وسرية الإجراءات.
خلفيات التصعيد: من مذكرات التوقيف إلى التقييد القضائي
يُذكر أن خان كان قد أصدر بالفعل مذكرات توقيف بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت. وبعد هذه الخطوة، كان يعتزم المضي قدمًا في استكمال مسار إصدار أوامر التوقيف لتشمل شخصيات إسرائيلية أخرى، على خلفية تصاعد الانتهاكات في الضفة الغربية، حيث وثقت منظمات دولية موجات عنف غير مسبوقة ارتكبها المستوطنون وقوات الاحتلال ضد السكان الفلسطينيين.
هل المحكمة تخشى من واشنطن وتل أبيب؟
أتي هذا القرار بتقييد خان بعد شهور من التصعيد الأميركي ضد المحكمة، لا سيما عقب إصدار مذكرات التوقيف بحق مسؤولين إسرائيليين. فقد فرضت إدارة دونالد ترامب في شباط/فبراير الماضي عقوبات اقتصادية على خان، شملت تجميد الأصول في الولايات المتحدة ومنعه وأفراد عائلته من دخول أراضيها، بالتزامن مع حملات تحريضية قادها أعضاء في الكونغرس، اتهموا المحكمة بـ"التحامل على إسرائيل".
وفي هذا السياق، يتساءل مراقبون عن مدى قدرة المحكمة على مقاومة الضغوط السياسية الأميركية والإسرائيلية، وهل أصبح استقلال القضاء الدولي على المحك عندما يتعلق الأمر بالجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين؟
استراتيجية السرية: حماية التحقيقات أم رضوخ سياسي؟
المحكمة برّرت، بشكل غير مباشر، قرارها بأنه يأتي في إطار الحفاظ على سرية التحقيقات وسلامة الشهود، وهي مبررات تتسق مع السياسات المعتمدة في العديد من القضايا الأخرى. غير أن هذا التبرير، كما يرى حقوقيون، لا يصمد أمام حقيقة أن خان نفسه قد تبنّى سياسة الإفصاح لغايات تتعلق بالردع ورفع مستوى المحاسبة.
في المقابل، يرى آخرون أن قرار المحكمة يعكس إدراكًا متزايدًا بحساسية الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة وما تثيره من انقسامات حادة داخل النظام القانوني الدولي، خاصة بعد أن باتت ملفات مثل فلسطين، ميانمار، والسودان، محطات اختبار حقيقية لحيادية القضاء الدولي وقدرته على مواجهة الإفلات من العقاب.
أوامر اعتقال جديدة
وتفيد المعطيات المتداولة التي كشفت عنها "الغارديان" بأن طلبات التوقيف المقبلة ستركز على الجرائم المرتكبة في الضفة الغربية، ما يعكس اتساع نطاق التحقيق ليشمل ملفات تتجاوز حرب غزة. ويُرجَّح، في حال المضي بهذا التوجه، أن تُوجه اتهامات لمجموعة واسعة من المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم قادة عسكريون ميدانيون ومسؤولون عن الاستيطان والتهجير القسري.
ومع أن القضاة لم يصدروا بعد قرارات نهائية بشأن الطلبات الجديدة، إلا أن إبقاءها سرية يعكس رغبة في تقليل الضغوط وربما تجنّب تكرار سيناريو الضغط العلني الذي رافق المذكرات السابقة.
العدالة على المحك
تجد المحكمة الجنائية الدولية نفسها في موقف بالغ الحساسية في ما يتعلق بملف فلسطين، إذ تمضي في مسار دقيق بين ضغوط سياسية كثيفة تمارسها قوى دولية نافذة، وبين التزاماتها القانونية في السعي لمحاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة ومنع الإفلات من العقاب. وبينما تتواصل الانتهاكات الميدانية في الأراضي الفلسطينية، يتضح أن مسار العدالة الدولية لا يُحدد فقط بالأدلة والوقائع، بل أيضًا بتوازنات القوة العالمية، وبما يُسمح بطرحه – أو يُفضل كتمانه – خلف الأبواب المغلقة في لاهاي.