23-أغسطس-2015

تنتشر في أرجاء موريتانيا أكثر من 1000 محظرة

قبل قيام الدولة الموريتانية الحديثة، بأكثر من سبعة قرون تقريبًا، عرف الموريتانيون كتاتيب تعليم الشريعة الإسلامية واللغة العربية وأطلقوا عليها تسمية "المحاظر". ومنذ ظهور هذه المدارس التعليمية الأهلية، لعبت دورًا أساسيًا في نشر تعاليم الدين الإسلامي إلى جانب مساهمتها في حفظ وصون الهوية العربية للبلاد إبان حقبة الاستعمار الفرنسي، أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الــ20.

تراجع المذهب المالكي في موريتانيا فسح المجال تدريجيًا أمام المدّ السلفي

وبحسب آخر الإحصاءات الحكومية، تنتشر في كافة أرجاء موريتانيا أكثر من 1000 محظرة، توفر مراحل تعليمية مختلفة تتنوع من حيث الاختصاص، إذ يركز بعضها على تعليم القرآن الكريم وعلومه، بينما يهتم بعضها الآخر بتدريس العلوم الشرعية واللغة العربية وما يتصل بهما من علوم.

ويقوم المنهج الدراسيُ المُتبع في مُعظم المحاظر الموريتانية على اختيار الطالب للمجال الراغب في دراسته، دون الإخلال بالمسار العلمي السائد في المحظرة، والذي يبدأ عادة بدراسة اللغة العربية وعلومها، ثم يتسع ليشمل علوم الشريعة الإسلامية بما فيها من آراءِ وتخريجاتِ علماء الفروع، باعتبارها منطلقًا أساسيًا لمعظم سكان البلاد أصحاب النزعة الأشعرية المالكية. لهذا ما يزال الموريتانيون يذكرون، ضمن ثقافتهم المحظرية، المقولة المشهورة: "نحن قوم خليليون، نسبة لخليل بن اسحاق المالكي، إن ضلّ خليل ضللنا"، التي تعكس ارتباطهم بالمذهب المالكي، وتوضح المكانة التي تحتلها العقيدة الأشعرية السٌنية، نسبة لأبي الحسن الأشعري، في نفوسهم.

إلا أن بعض متتبعي تاريخ المحظرة في البلاد يرون أن تراجع المذهب المالكي، وتقلص الآخذين بالعقيدة الأشعرية ذات المنبع الصوفي، فسح المجال تدريجيًا أمام "مدٍّ سلفي" جديد، تضافرت عوامل عديدة في تشكيله وظهوره، وكان لوسائل الإعلام الحديثة، وما تزخر به من خطاب فكري مغاير، دور كبير في نشره وترسيخه، فضلًا عن ما يصفه البعض بــ"تلاقح" فكري شهدته المحظرة مؤخرًا نتيجة إقبال عدد من الطلبة الأجانب ذوي الميول السلفية الجهادية.

فيلم المتطرف لـ سيد محمد الشيقر
بوستر فلم المتطرف

وفي السنوات القليلة الماضية تعالت دعوات مطالبة بمراجعة المنهج المتبع في المحاظر وفرض مزيد من الرقابة عليه، خاصة بعد أن سُجلت بضع حالات انخرط أصحابها في تنظيمات جهادية توصف بـ"التشدد"، بعد أن مروا خلال مسيرتهم العلمية بالمحظرة، ما جعل البعض يتهمها، تلميحا أو تصريحا، باحتضان الفكر الأصولي المُغَذي للحركات الإسلامية المتشددة في المغرب العربي.

وقد عاد هذا الجدل إلى الواجهة من جديد خلال الفترة الأخيرة إثر صدور فلم سينمائي بعنوان "المتطرف" حاول مخرجه تسليط الضوء على إشكالية اختراق المحظرة من طرف طلبة أجانب يحاولون استغلالها لاستقطاب مجموعات شبابية، يتم تجنيدها ضمن حركات توصف بـ"التشدد والإرهاب"، وهو ما اعتبره البعض تشويها لصورة المحظرة وتنقيصًا لدورها العلمي والثقافي. 

المخرج الشاب لفيلم "المتطرف" سيد محمد الشيقر، وخلال حديث له مع موقع "الترا صوت" نفى أن يكون قد اتهم المحظرة بالمساهمة في صناعة الإرهاب، قائلًا إن الفيلم يحمل "دعوة للجهات المعنية للاتفات إلى المحظرة وحمايتها" ممن سماهم "دخلاء أجانب يزرعون التشدد بين طلابها، ويستغلون طيبة أهلها وبذلهم في سبيل تحصيل العلم والمعرفة".

الشيقر الذي وجد نفسه عرضة للاتهامات أكد أن "مشاهد الفيلم تعكس بصورة واضحة كيف أن الضحية تم تجنيده من طرف أجانب، وليس من شيخ المحظرة ولا من طلابها"، في محاولة لتبرئة ساحة المحظرة مما نُسب إليها، إلا أن مشهدًا آخر من مشاهد الفيلم يُظهر قصة شاب موريتاني أحس ذووه بتطرفه أخلاقيًا، ثم أرسلوه للمحظرة بغية الاستزادة من التربية والتعليم، فكانت المفاجأة أن تم تجنيده وإعطاؤه صورة مغلوطة عن الإسلام، ما جعله يدخل مرحلة تطرف فكري جديد، جراء  تشبعه بأفكار "شاذة".

أما حالة الاغتصاب التي تضمنها الفلم، فيعتبر الشيقر أنها "لا تشير بالضرورة إلى الاغتصاب الجنسي فحسب، وإنما ترمز إلى اغتصاب فكري تعرضت له المحظرة على يد طلبة أجانب أصبحوا يروجون لأفكار غريبة على منهج المحظرة وطريقتها في التربية والتعليم".

وقد اعتبر البعض أن الفيلم يعكس جرأة في التعبير، وحرية في الطرح، لا ينبغي محاصرتها ولا الوقوف في وجهها، باعتبارها تمثل حرية "إبداعية" تهدف إلى خلق وعي فني ببعض القضايا التي ظلت حتى وقت قريب من "التابوهات" الاجتماعية التي يحظر الخوض فيها.

ويرى محمد عبد الدائم شيخ محظرة "الزهراء" بنواكشوط، أن ما ورد في فيلم "المتطرف" يعد إساءة مباشرة للمحظرة وتاريخها العريق، بوصفها أحد الرموز العلمية والثقافية لكل الموريتانيين، مشيرًا أنها ساهمت بشكل كبير في نشر الإشعاع العلمي والديني في إفريقيا، وعلمت على تخريج جيل من العلماء الربانيين كان لهم دور كبير في نشر الدعوة الإسلامية "المعتدلة" في كافة أصقاع العالم.

وأشار عبد الدائم إلى أن بعض أئمة المساجد وشيوخ المحاظر لمسوا في الفلم نوعًا من التجني المباشر أو المبطن على المحظرة، هدفه تشويه صورتها الناصعة. وتساءل أيضًا لمَ لا يتم توجيه التهمة الموجهة للمحظرة إلى الجامعات العالمية، باعتبار أن البعض منها شهد مرور أفراد انخرطوا فيما بعد في الحركات الجهادية المتشددة في العالم، واصفًا الأمر بأنه "ازدواجية في المعايير غير مقبولة وغير مبررة".

وقد اعتبر الشيخ أنه من غير المنطقي أن نوجه أصابع الاتهام للمحظرة لمجرد أن أفرادا قليلين من المحسوبين عليها "تشددوا" فكريًا، لافتًا إلى أن تاريخ المحظرة الممتد لقرون يشهد لها بنشر ثقافة الاعتدال والتسامح، ولأصحابها بالاستقامة السلوكية والدينية والأخلاقية، وأن أقل ما يمكن أن يقال عن طلابها إنهم معتدلون.