25-مارس-2020

من مسرحية صور من حياة غسان كنفاني

لقد عانى الكتّاب والمثقفون قديمًا وحديثًا وفي دول شتى، دكتاتورية وديمقراطية من ألم الرقيب وسوء تفسيراته، فكانت الرقابة حاضرة وسيفًا مُسْلَطًا على ما ينشر من كتب أو مقالات في الصحف والمجلات، وحديثًا يحاول أصحاب النفوذ السياسي جعل المواقع الإلكترونية تحت المراقبة، لحذف ما لا يعجب أو يطرب هؤلاء المتنفّذين، وكأنهم يريدون البشر مداحين للخواء والغباء والجهل، فسنّوا قوانين "الجرائم الإلكترونية" التي امتدت سلطتها إلى معاقبة الأشخاص على ما يكتبون من آراء لم تعجب السلطة الحاكمة، أو تُعرّض الأشخاص إلى التنمر بسبب تلك الآراء، فأباح الرقيب لمقصّه أن يبتر من النصوص ما لا يعجبه أو يخالف رؤيته العوجاء، وكأنه الناقد الفذّ، والمانح الكلمات معانيها، والهادي إلى سواء السبيل.

أطلق رجال الموساد العديد من الرصاصات لتستقر في يده الّتي يكتب فيها كمال ناصر، ورصاصةٌ أخرى في فمه قاصدًا مُتقصدًا

لم يقف الحدّ عند بتر النصوص وتشويهها، بل امتدت يد الأجهزة الأمنية إلى شخص الكاتب الناقد بالمفهوم المعارض لسياسة السلطة الحاكمة، فزجّت به في السجن وعذّبته، وقد حفلت السجلات العربية الأمنية بأسماء كثيرةٍ لتلك الحالات، فتعرّض كثير من الكتاب إلى السجن والنفي والتضييق والفصل من الوظائف الحكومية، والتعذيب المفضي إلى الموت، وهذا ما سمعنا عنه وقرأناه عن كثير منهم، من أمثال رسام الكاريكاتير السوري علي فرزات، فقد قامت الأجهزة الأمنية السورية بخطفه وتعذيبه في بدايات الثورة (2011)، ودق أصابع يديه التي يرسم بها، إذ رأت السلطة الحاكمة أنه يزعجها أو يحرجها.

اقرأ/ي أيضًا: غسّان كنفاني.. العودة إلى الدرس الأول

وقد حدث قبل ذلك أن قامت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالتصفية الجسدية للعديد من الكتاب الفلسطينيين، فاغتال جهاز "الموساد" غسان كنفاني وناجي العلي وراشد حسين وماجد أبو شرار. وتشير حالة اغتيال كمال ناصر إلى مشهدية رمزية مشابهة لما تم مع الفنان علي فرزات مع عنف أشد في دلالات؛ حيث أطلق العديد من الرصاصات لتستقر في يده الّتي يكتب فيها ناصر، ورصاصةٌ أخرى في فمه قاصدًا مُتقصدًا، وكأن الموساد يريد أن يقول إنّ: "ما خطته يدك وما قاله لسانكَ هي الدافع إلى اغتيالك". وغير كمال ناصر كثيرون أيضًا ممن كانوا ضحايا تلك السياسة النابعة من تصرف الغول الصهيوني الذي أبدع وشنّع في سبل المراقبة التي طالت المدارس ومكتباتها والبيوت وما فيها. وما زالت سلطات الاحتلال إلى الآن تعيق على المعابر حركة عبور الكتب إلى فلسطين، سواء بسواء كما تعيق حركة تنقل الأفراد.

وتبعًا لذلك وخوفًا من السلطتين السياسية والاجتماعية، فقد قام نفر من الكتاب السياسيين من اختراع أسماء مستعارة، يوقعون بها مقالاتهم وقصائدهم، وقد أبدعت الحركات التحررية في ذلك أسماء ذات مدلولات عميقة في فلسطين وفي غيرها، فكان للقادة أسماء مستعارة عرفوا بها، أطلق عليها "أسماء حركية"، وعلى الصعيد ذاته أيضًا وخوفًا من "الرقابة الاجتماعية" نشرت العديد من الكاتبات كتاباتهن بأسماء مستعارة، كفدوى طوقان على سبيل المثال إذ وقعت مجموعة من قصائدها الغزلية بأسماء كالحمامة المطوقة، ودنانير.

وربما أتاحت الأسماء المستعارة لكتابها حرية في الحديث والنقد، كما حدث مع غسان كنفاني عندما نشر مجموعة من المقالات الساخرة اللاذعة النقدية، وكان يوقعها باسم "فارس فارس". وفي ظني لو أن غسان وقعها باسمه الصريح لم يكن ليسمرّ في كتابتها طويلًا حتى استشهاده رحمه الله. وسأعود لهذه المقالات في وقفة خاصة.

وأما اجتماعيًا، فحدث ولا حرج؛ فقد تحولت مجتمعاتنا إلى مجموعة من الرقباء الذين تبرعوا لشغل هذه المهمة بدرجة من الإتقان فاقت وبزّت عمل الرقيب السياسي والأمني، فتحول الكل رقيبًا على الكل، وحمل السلوك الاجتماعي الفردي أكثر مما يحتمل، وقد اشترك الرقيب السياسي مع الاجتماعي في مهمة التفسير والتأويل لتلك التصرفات والأقوال، فأخذ الجميع يحصون على الناس أنفاسهم وأقوالهم وتحركاتهم ولقاءاتهم، وظنوا ببعضهم الظنون، فاشتعلت الفتنة، وعمت البغضاء، وقلت الثقة بين الناس وانعدم الأمان.

لعل الشاعر معين بسيسو أكثر الشعراء الفلسطينيين الذين تحدثوا عن الرقيب السياسي، بصورة "المخبر" في كثير من قصائده

وقديمًا لم يكن للرقيب السياسي حضور طاغ كمثل أيامنا هذه، وإن كان موجودًا، ولكنه ليس بهذه الكثافة المقيتة التي هو عليها اليوم، وبرزت مهمة الرقيب الاجتماعي بروزًا لافتًا للنظر، وخاصة عند شعراء الغزل العذري، فقد امتلأت قصائدهم بالحديث عن الواشي والرقيب، ما حدا بابن المعتز ليعبر عن ألم ذلك بهذين البيتين عن عمق المأساة التي يعاني منها في علاقته بمن يحب:

أَرُدُّ الطَرفَ مِن حَذَري عَلَيهِ

وَأَمنَحُهُ التَجَنُّبَ وَالصُدودا

 

وَأَرصُدُ غَفلَةَ الرَقَباءِ عَنهُ

لِتَسرِقَ مُقلَتي نَظَراً جَديدا

لعل الشاعر معين بسيسو أكثر الشعراء الفلسطينيين الذين تحدثوا عن الرقيب السياسي، بصورة "المخبر" في كثير من قصائده، وأما عربيًا فكان لموضوع المخبر حضور عند كثير من الشعراء والروائيين، فكانت شخصية المخبر حاضرة في روايات نجيب محفوظ، وفي أشعار أحمد مطر على سبيل المثال لا الحصر، وتستحق هذه الظاهرة أن يتناولها الدارسون للكشف عن دوافعها النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وربما الثقافية أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم

ولا يفوتني أن أشير إلى كتابين مهمين أبرزا هذه الظاهرة في المجتمع العربي داخل المناطق المحتلة عام 1948، وهما "عرب جيدون" و"جيش الظل"، للكاتب الإسرائيلي هليل كوهين، إذ بين في كتابيه الدور الذي لعبه "المتعاونون" العرب مع سلطات الاحتلال في ترسيخ واقع الدولة الجديد في مجالات متعددة، وضبط الحياة العربية في الداخل المحتل. لعل ما تحدث عنه كوهين قد ورد بصورة ما في الأدب الفلسطيني، فظهرت عند إميل حبيبي في روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، وحديثًا في مسرحية "شجر وحجر" للكاتب الفلسطيني إبراهيم خلايلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وشاية المقهور

مقص الرقيب القروسطي يطال فرج الله الحلو!