30-يوليو-2015

الريح أمبدي/ السودان

قال لي: "يجب أن يقتلوا حتى الأطفال الرضع منهم"، في إشارة إلى الإسرائيليين بعد العدوان على غزة نهاية عام 2008. حدث ذلك في دمشق مطلع عام 2009. لم يستخدم الجيش الإسرائيلي، الضليع في الإجرام، البراميل المتفجرة ولا السلاح الكيميائي، ولم يقتل في السجون الإسرائيلية 11 ألف إنسان موثقين بالصور، ولا لوحق المتظاهرون إلى المستشفيات الإسرائيلية ليتم الإجهاز عليهم، كانت حصيلة العدوان ما يزيد عن 1500 شهيد، وسقط في سوريا نحو ربع مليون شهيد.

في عام 2012، كان يتحدث عن "الجيش العربي السوري" وضرورة الحفاظ عليه كمؤسسة، نافياً عنه التركيبة الطائفية، ومؤخراً وبعد كل تلك الكوارث وجّه له التحية معتبراً إياه جيشاً وطنياً يحارب الإرهاب. كما رأى أن النظام السوري اكتسب شرعية، في المهزلة الانتخابية الرئاسية التي أجريت العام الماضي، وهو الذي ما انفك يؤكد أن طلب الناس على الأمن والأمان سيزيد في لحظة معينة، حتى لو خالفت الأحداث توقعاته باستمرار.

رغم توجهاته اليسارية وأصوله الريفية، إلا أنه كان صاحب نظرة فوقية إلى الفقراء والمهمشين فعلياً

في الأشهر الأولى للثورة، كان هذا المثقف المعارض المنتمي إلى طائفة النظام، ينظر بعين الريبة وعدم الارتياح إلى المظاهرات السلمية في الريف المنتمي لطائفة الأكثرية، ولم تكن مشكلته مع التسليح، بل مع هؤلاء الناس، ورغم توجهاته اليسارية وأصوله الريفية إلا أنه كان صاحب نظرة فوقية إلى الفقراء والمهمشين فعلياً. لقد اجتمعت كل الشروط التعجيزية التي وضعها هو وأمثاله من النخبة العلمانية الأقلوية للعمل الثوري: احتجاجات سلمية ذات خطاب وطني وبعد طبقي، غير أن حساسيته الطائفية كانت في العمق تخلق لديه نفوراً ممن لا يعتبرهم شعبه.

كان صاحبنا يحمل عشقاً سرياً للنظام، وحين تستمع إليه تشعر أنك أمام قناة "الدنيا" الموالية. مشكلته كانت مع قطر وتركيا والسعودية، ولا يحدث أن يذكر إيران وروسيا وحزب الله. يشتم المعارضة بمختلف أطيافها حتى الصباح، ولا يكاد يشير إلى جرائم النظام، كابوسه هو القاعدة، ولا يرى المليشيات الطائفية الأجنبية المتدفقة عبر الحدود بموافقة رسمية. 

يحن إلى لذة العيش في ظل الدكتاتورية. هو معارض لكنه في دولته، الدولة العلوية القائمة منذ عقود، يشتاق لأمانه الخاص وحريته الشخصية، حيث باستطاعته أن يتابع مشاريعه الثقافية دون منغصات، خصوصاً مع كون أبواب المؤسسة الثقافية الحكومية مفتوحة له. يحب صورة المثقف العضوي لكن في زمن كارل ماركس وأنطونيو غرامشي، أو في أي مكان في العالم، في البرازيل أو لدى اليسار التركي، إلا في سوريا، إنه لا ينتمي بأي حال من الأحوال إلى شعب المخيمات والمدن المدمرة.

لا يشعر بأي تناقض داخلي، فأناه المتضخمة تجعل من نفسه مركز الكون، يجب أن تفصّل الثورة على مقاسه، ولا بأس أن يكون قائدها أو منظرها، فلا بد من النظرية للثورة، وبما أن هذه الثورة التي أصبحت الآن ثورة مضادة، ولا تنطبق عليها الشروط الفلسفية المعقدة المطلوبة، فيجب عدم عدها ثورة، إنها بروفة، وستفشل بالتأكيد حسب رؤيته، كنوع من التفكير الرغبوي الصبياني: لا بأس أن يموت الملايين لأثبت أن وجهة نظري هي الصحيحة، ولـ"أجاكر" الأغبياء والحمير، وهو وصف ينطبق على كل صاحب رأي مختلف. لسان حاله يقول: لا أريد شيئاً سوى أن تمكنني تطورات الأحداث التاريخية من أن أقول للجميع في النهاية: ألم أقل لكم؟

تكشف "العقل الجبار" و"المثقف الكوني" والعلماني الأخلاقي، العدو اللدود للتمييز على أساس طائفي أو عرقي أو جنسي، عن مهرج ثقيل الظل يردد أفكار الآخرين كالببغاء، وزير نساء محبط، ورجل أبيض بقناع أسود، ومتعصب طائفي مقلوب مثير للشفقة لا يجيد سوى الشتم والردح.