29-نوفمبر-2022
مونديال قطر 2022

هاشم، الغربي، بهيش، إيعالي

كيف يرى المثقفون المونديال؟ قبل ذلك كيف هي علاقتهم مع كرة القدم؟ وهل ثمة علاقة بين الكتابة والفن من جهة، والكرة من جهة أخرى؟ عن هذه الأسئلة وغيرها نقدم لكم هذه الباقة من الآراء.


بهاء إيعالي: الأدب وسيلتي إلى اللعبة

علاقتي بكرة القدم قديمة، بدأت لديّ قبل عشرين عامًا خلال مونديال اليابان وكوريا الجنوبيّة عام 2002، وقتها شجّعت ألمانيا كردّة فعلٍ على معظم أفراد عائلتي المشجّعة للبرازيل. ومنذ ذلك الوقت وأنا شغوفٌ بكرة القدم، وأتابعها بشكلٍ مستمر، ليس فقط على صعيد كأس العالم، بل أتابع الدوريات الأوروبيّة والبطولات القاريّة والعالميّة الأخرى، كالدوريات الإنكليزي والإيطالي والألماني والإسباني وغيرها. ما أجد نفسي متميّزًا فيه كمتابع لهذه اللعبة هو أنّني لا أنظر لمسألة تشجيع فريقٍ معيّنٍ كما ينظرُ بعض المشجّعين المتعصّبين (بالمناسبة، أنا مشجّعٌ لنادي ليفربول ومنتخب ألمانيا)، بل إنّني أكثر عقلانيّة، أحلّل أداء اللاعبين والفريق ككلّ ولا أتورّع عن انتقادهم حينما يلعبون بشكلٍ سيئ. ربّما السبب في ذلك هو أنّني كنتُ ذات يومٍ لاعب كرة قدم في المراحل السنيّة لفريقٍ محلّي (لعبتُ في مركز الظهير الأيسر وسجّلت ذات يومٍ هدفًا حاسمًا في مباراةٍ مهمّةٍ للفريق).

إنّ تعاملي ككاتبٍ ومترجمٍ مع هذه الرياضة لا يتمثّل بلحظة حدثٍ ما فيها، بل ولأنّني أدركتُ أسس اللعبة بشكلٍ جيّدٍ فقد بنيت فلسفتي الحياتيّة والعمليّة عليها (تفاصيل ذلك كثيرة)، أحيانًا تراودني الحسرة بأنّني لم أتابع مسيرتي في هذه اللعبة وأتّجه للاحتراف فيها، ولكن أخذني الأدب والفن لصوبهما دون أن ينتزعاني منها. وربّما محبّتي لهذه اللعبة، إضافةً للأدب والفن، جعلتني أنظرُ إليها كالتالي: هناك لاعبون شعراء، لاعبون فلاسفة، لاعبون رسّامون، لاعبون موسيقيون... بالتالي لا أجدُ أنّ كرة القدم عالمٌ مغايرٌ تمامًا عن عالم الأدب والفن بقدر ما أجد العالمين متلازمين، ولا أعتقد أنّ الأدب والفنّ أبعداني عن كرة القدم بل جعلاني أقرب إليها.

بهاء ايعالي

حسين بهيش: وجهان لعملة واحدة

كأس العالم حدث تاريخيّ يمر علينا كلّ أربع سنوات.

أتابعهُ بشغف وأحرص على تشجيع المنتخبات العربية أولًا ومن ثم أشجع منتخب البرتغال لأنّ فيه أحد أبرز اللاعبين كريستيانو رونالدو. لا أدري لماذا يسحرني هذا اللاعب، فيه شيء يجذب وساحر، تكاد تراه بعينك قصيدة أو ومضة شعرية.

الكرة المستديرة بالنسبة لي أحد فنون عالم العشب الساحر. وموسيقى. كما يحمل الشعر الموسيقى والصور الشعرية، هكذا نرى وبالعين ذاتها هدف ريتشالسون لاعب البرازيل في إحدى المباريات حيث أبدع بتسجيل الهدف الأول، رأيته بعينيّ ولمسته بإحساسي. ارتجّت مشاعري لحظتذاك كما ترتجّ حين تتفاعل مع الصور الشّعرية. الخيال ذاته ينتابني حين أشاهد مباراة لفريق أحبه وأتفاعل بنفس الضغط النفسي الذي أعانيه حين أكتب أو حين أتحضر لأكتب، هكذا وبالوتيرة ذاتها، أتحسس عند مشاهدة منتخبي الذي أحب.

 القصيدة كالكرة، كائن متحرك تتحرك حسب الارتطام على العشب أو به. أو على الورق.

ما زلت أذكر إلى الآن أنني تعرّفت على كرة القدم عندما كنتُ صغيرًا عام 2003 عندما كنت أشاهد منتخب بلادي العراق في مباريات أثينا الأولمبية.

وكنت أركض ابتهاجًا واحتفالًا في باحة المنزل مع كلّ هدف يسجّله المنتخب العراقي في شباك الخصم، لا أذكر من كان آنذاك. لقد خانتني الذاكرة.

من هنا تقريبًا بدأت قصتي مع كرة القدم، عندما فزنا على البرتغال أربعة مقابل هدفين بدأ الشغف والحب وبعدها بدأت بتشجيع ريال مدريد فريق البلانكوس المرينغي وبدأت أواظب على متابعة الكرة المجنونة بشكل دوري.

أستطيع القول إنني صرتُ متابعًا مدمنًا، بحيث بتُّ لا أفوّت أي فرصة أو مباراة في الدوري الإسباني.

أريد أن أعترف أيضًا أنني ألعب كرة القدم كلّ أسبوع في النادي الرياضي في مدينة السماوة مدينتي التي أحبّ.

أذكر أنّه من أحلامي ذات يوم، أن أصبح مثل اللاعب زين الدين زيدان. كنتُ مهووسًا بهذا اللاعب وكنت أقلد ركلة جزاء زيدان أمام إيطاليا البانينكا في الحي الشعبي وأنا ألعب.

هي ذاتها المتعة التي يحققها الشعر، تحققها الأهداف في هذه اللعبة.

مثلًا عندما أنتهي من كتابة قصيدة للمرّة الأولى وقبل مراجعتها وتشذيبها، أحسُّ بلذة الفوز أو الانتصار لأنني حقّقت هدفًا جميلًا هو القصيدة. المتعة نفسها والنشوة نفسها والإحساس بالإنجاز نفسه والرغبة بمشاهدة ما أنجزت هي ذاتها.

باختصار الكرة والقصيدة وجهان لعملة واحدة.

حسين بهيش

طارق هاشم: مونديال المفاجآت

في البداية دعنا نقول إنّ العلاقة بين كرة القدم والأدب علاقة تاريخية بوصفهما يشتركان في مفهوم أو مسمّى واحد ألا وهو الفن. حين يسجّل ميسّي مثلًا هدفًا جميلًا في شباك منافسيه. هو في هذه الحال لا يختلف عن ألبرتو مانغويل وهو يكتب نصًا رائعًا.

أتذكّر هنا ما كنّا نقوله حين ينقلُ مارادونا أو رونالدينيو السّاحر نقلة بارعة. كنّا نقول الله على الجملة أي أنه صنع جملة جميلة لنرى أنّ الجملة الكروية من الممكن أن تحقّق نفس المتعة الّتي تحقّقها الجملة الشعرية فالمسألة لا تختلف كثيرًا.

كلنا بمعنى من المعاني نلعب! أليست الكتابة أيضًا لعبة من ألعاب الحياة المبهرة؟ أوليست وسيلة للإبهار وتحقيق الانتصارات الداخلية والخارجية؟ أذكرُ جيّدًا حين كنتُ في مدرسة غصن الزيتون الثانوية كنت أحد اللاعبين المهرة في فريق المدرسة، كان أصدقائي يحسدونني أتكتب وتلعب؟ تكتب الشعر وتلعب الكرة. الفعلان يبدآن بحرف التاء. فكلنا نلعب إلا أنّ الأدوات مختلفة. هذه تحتاج ورقة وقلم وهاتف، وتلك تحتاج تدريبًا وملعبًا وشباكًا.

 القداسة في أيّ فن هو ما مقتلة له، فالكتابة لعبة كالكرة وكل منا يسجل هدفه بطريقته. كلّ منّا يكتب نصه بطريقته. ولكلّ منا انحيازاته.

في عجالة الحديث عن كرة القدم راودني سؤال لماذا اخترت الكتابة؟ ربّما لقربها من قلبي وميولي.

 أكتب هذه الكلمات الآن وأنا أتابع مباراة المغرب وكرواتيا في مقهى في وسط المدينة في القاهرة، وشعورٌ دفين يراودني أنّ مونديال قطر هو مونديال المستضعفين، وانتصارات غير متوقعة. إذا جازت هذه التسمية فمونديال 2022 هو مونديال العجائب. القواعد من السهل أن تتغير ولا ندري من يفوز. في كلّ مونديال يلعب منتخب عربي كنت أشجع المنتخب العربي مع استبعاد تخيّل الوصول لأننا دائمًا نتعامل منذ البداية أن البرازيل هو حائز اللقب إذا لم تحدث المفاجأة فأنا من محبي فريق البرازيل، وإذا كنت تضمن لي أن أكون لاعبًا في صفوفه حينها سأكون سعيدًا نفس سعادتي بالكتابة.

كلّي أمل بالفرق العربية وبتحقيقها لنتيجة مهمة في هذه الدورة. لعلّه تتغير الخريطة في المستقبل وهذا مجرّد أمل!

طارق هاشم

حيان الغربي: الكرة صورةٌ أخرى للحياة

سمعت من صديقٍ مثقّف وشغوفٍ بكرة القدم ذات يوم، أنّ اللعبة تطوّرت على خلفية رؤية الجنود الإنكليز لرؤوس رفاقهم تتقاذفها أقدام الجنود الدنماركيين إبان غزوهم لإنكلترا في القرن العاشر الميلادي. ولهذا، ربما، ما فتئ جميع المعنيين من مؤسسات وممارسين وجماهير يشحنون هذه اللعبة بكثير من التوترات والتشنجات والقلق. لا شك أن مباراة كرة القدم تشبه المعركة بقالبها التقليدي من حيث تموضع الفريقين (الجيشين) المتواجهين إزاء بعضهما بعضًا وتوزيع المدربين (القادة) للأدوار بين اللاعبين (الجنود) بين ميمنة وميسرة ودفاع وهجوم، والجميع يتنافسون (يتحاربون) على أرض الميدان (field)، الكلمة التي لا يخفى على أحدٍ أنها تستخدم في هذا السياق بمدلولها الحربيّ. ولكن من زاوية نظر أقلّ تطرّفًا، يمكننا أيضًا تشبيه مباراة كرة القدم بالمسيرة الفردية للمرء، فهو يستعين بمحيطه الاجتماعي لوضع تصوّرات مسبقة حول المكان الذي سيشغله في الحياة (الملعب) ليبدأ، بعد ذلك، مساعيه من الصفر، مواجهًا المفاجآت والضغوطات والحظ السيئ، وأحيانًا الجيد، بعزيمةٍ تعلو وتهبط حسب استعداداته، ومن ثمّ يُمنى بالهزائم ويحرز النجاحات.

لا يحدث أي مما سبق إلا تحت أعين المجتمع (الجمهور) المعني وبتفاعلٍ منه، وهو التفاعل الذي يتفاوت أيضًا حسب سقف توقعاته من الفرد (اللاعب) المعني.

بالعودة إليّ شخصيًا مارستُ كرة القدم كلاعبٍ هاوٍ في المراحل العمرية لنادٍ دمشقي، وعشتُ شيئًا من تلك النجاحات والإخفاقات، والأفراح والخيبات، وما زلت حتى اليوم أستخلص منها العبر بأثرٍ رجعي. فحتى ساعتي هذه لا أسهو عن أن جميع التحضيرات لن تسعف المرء لدى مواجهته أية معضلة إذا ما تخلّى عن حضوره الذهني التام ولو لحظة. أدين لكرة القدم بالكثير على الصعيد الشخصي، إذ إنها تدرّب الفرد على التصدّي للمشكلات وتذليل المصاعب والتخطيط لإحراز الانتصارات والتعافي بعد الهزائم، فضلًا عن أنها تلقّنه دروسًا ولو خفيّة في مهارات العمل الجماعي.

يمكنني أن أقول أيضًا إنّ أهم درسٍ تعلّمته من تجربتي تلك هو أن ما يجذبني في مباراة كرة القدم، بصفتي واحدًا من الجمهور، هو التأثر بالتجارب الإيجابية (والتعلّم من السلبية) والاستمتاع بالأداء. لا أرى أيّ جدوى من نقل الجمهور لآرائه السياسية وانتماءاته العصبوية إلى عالم اللعبة، فحسب كرة القدم أن تسهم في تنمية القدرات الفردية للإنسان، فضلًا عن منحنا قدرًا لا يستهان به من المتعة.

لا أذكر أنني تعصّبتُ يومًا لفريقٍ معيّن، بل أميل إلى متابعة الأكثر إمتاعًا بين الفرق، الأمر المتغيّر بتغيّر الواقع والظروف المحيطة بكلّ منها، مما يعني أنني في كلّ بطولةٍ قد أشجع فريقًا مختلفًا، وآخر مرّةٍ فاز فيها الفريق الذي أشجّعه بكأس العالم كانت في العام 2010، حين فاز المنتخب الإسباني. في خضمّ البطولة الحالية، قدّمت عدة منتخبات عالمية أداءات رائعة ومبشّرة، بما في ذلك كبيرا أميركا اللاتينية البرازيل والأرجنتين، لكنني أميل أكثر قليلًا إلى المنتخب الأرجنتيني لأني ممن يعتقدون بأن ليونيل ميسي يستحقّ الظفر بالكأس التي تنقص رصيده العامر بالبطولات، إذ أرى أن الرجل يشكّل نموذجًا يحتذى به من حيث بعد نظره في الملعب وأدائه المبهر في معظم (وليس جميع) المباريات، فهو محاربٌ مؤثّر على أرض الميدان يجمع بين خصال هكتور (الذي آمن الطرواديون، ولو كانوا مخطئين أحيانًا، بأن تضحياته كانت كفيلةً بإنقاذ مدينتهم من الهزيمة) وآخيل الذي اعتقد الإغريق أن مجرّد وجوده على رأس محاربيهم كان يكفي لزعزعة أية دفاعات تعترضهم مهما بلغت شدّتها، وإن جانبهم الصواب في ذلك أحيانًا أيضًا.

حيان الغربي