10-أغسطس-2016

منير الشعراني/سوريا

على هامش اللقاء التأسيسي للرابطة العربية للتربويين التنويريين في عمان-الأردن، دار حوار جانبي مع بعض الأساتذة الأفاضل حول بعض الاحتياجات التقنية، والمتعلقة بنقل بعض المصطلحات الإدارية من الإنجليزية -التي تكتب بها معظم الأدبيات الإدارية المعروفة- إلى العربية. بداية الحديث كانت حول تقسيم مستوى العمليات الإدارية تقليديًا إلى ثلاثة مستويات طبقًا لمستوى التعقيد:

المستوى الأول: operation والذي يعني إجراء عملية أو عمليات إدارية بسيطة.
المستوى الثاني: process والذي يعني سلسلة متتابعة من العمليات، والتي تهدف في النهاية إلى إتمام مهمة أكبر يشترك فيها عدد من الأشخاص.
المستوى الثالث: System والذي يعني منظومة أكثر تعقيدًا من العمليات والإجراءات والتي تحقق أهدافًا متعددة ويشترك فيها عدد كبير من الأشخاص.

ومن هنا بدأ البحث عن مقابلات عربية تؤدي نفس الدلالة للمستويات الإدارية الثلاثة، ودون عناء كبير استطعنا تمييز مقابل عربي مناسب لمصطلح "operation"، والذي كان "عملية"، وكذلك استطعنا تمييز مقابل عربي مناسب لمصطلح "system"، وهو "نظام"، بينما وجدنا أنفسنا حائرين تماما أمام مصطلح "process"، حيث لم نستطع تمييز أي مقابل عربي مناسب، له نفس دلالة المصطلح في الإنجليزية. فالمصطلح "process" يحمل دلالة تتابع عملياتي تلقائي، يتحصل عنه تراكم في الخطوات الإدارية التي يوجد بينها ترابط، بما يحقق هدفًا أكبر من كل عملية على حدة. ولأن هذه "العمليات" البسيطة قد خلقت شيئًا أكبر منها، فهي بذلك تحمل أيضا بعض دلالات التحول.

فمثلًا عندما تريد استخراج رخصة قيادة، تذهب إلى الهيئة المختصة، وتمر بمجموعة من العمليات المتتابعة والمترتبة على بعضها البعض، بعضها يتطلب إجراءات من جانبك، وبعضها الآخر يتطلب إجراءات من جانب الموظفين في الهيئة المختصة، بحيث تجد نفسك في نهاية المطاف مستحقًا لرخصة القيادة وحاملا لها. هذه هي الـ"process".

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كلمة "شلونك" (1- 2)

بعد عناء كبير دام ليلة كاملة، استطعنا تمييز مفردتي "سيرورة" و"صيرورة"، واتفقنا أن المفردة الأولى أقوى في الدلالة على "التتابع العملياتي"، بينما المفردة الثانية أقوى في الدلالة على "التحول"، وأن كلاهما غير شائع في البيئات الإدارية العربية، وغير مستخدم.

ومن هنا بدأنا في التفكير حول منشأ هذه المشكلة، والمتمثلة في غياب مثل هذا الاصطلاح "process"، والمعبر عن مستوى وسيط من العمليات الإدارية عن بيئة اللغة العربية، وعلاقة ذلك ببنية السلطة. فبطبيعة الحال، يرتبط كل من هذه المستويات الإدارية الثلاثة بقدر معين من السلطة لإتمامه.

خذ على سبيل المثال، الموظف الموكل باعتماد شهادة اللياقة الطبية التي تقدمها ضمن مسوغات استخراج رخصة القيادة. فهذا الموظف يفترض أنه يتمتع بقدر محدد من الخبرة والمعرفة، وفي مقابله يحظى من المؤسسة بقدر محدد من "السلطة" ليكون مسئولا عن عملية واحدة محدودة ببساطة "operation" يديرها عادة من مكتبه، ولا يستطيع أن يتعداها، وهي الفصل في صحة شهادة اللياقة الطبية التي تقدمها، وهذا هو المستوى الأدنى من السلطة. فهذا الموظف لا يستطيع بهذا القدر المحدود من السلطة، أن يقرر مرة واحدة منحك رخصة القيادة، وإنما فقط يستطيع الفصل في خطوة واحدة، تتكامل مع غيرها لدى موظفين آخرين يفصلون في خطوات تفصيلية أخرى حتى تمنحك المؤسسة في النهاية رخصة القيادة المطلوبة.

بعد عناء كبير دام ليلة كاملة، استطعنا تمييز مفردتي "سيرورة" و"صيرورة"، واتفقنا أن المفردة الأولى أقوى في الدلالة على "التتابع العملياتي"، بينما المفردة الثانية أقوى في الدلالة على "التحول"

يفترض أن داخل نفس هذه المؤسسة التي تقوم على إصدار تراخيص القيادة، مشرفون أو مدراء لا ينخرطون في العمليات البسيطة، وإنما يقومون بالإشراف عليها من أعلى، وكل منهم مسؤول عن سلسلة عمليات كاملة "process" ويفترض أن لديهم سلطات أوسع من صغار الموظفين، ثم مديرون قليلون في قمة هرم المؤسسة مسؤولون عن المنظومة بكاملها، وهؤلاء هم الموجودون في مستوى "system"، وهؤلاء يفترض أنهم يتمتعون بصلاحيات واسعة وسلطة تمكنهم من تسيير أعمال المنظومة بكاملها.

جدير بالملاحظة في هذا التصور أن المستوى الذي يقع فيه كل شخص من هؤلاء هو مسألة نسبية تمامًا، فعلى مستوى جهاز الدولة ككل، تجد كبار الموظفين -مثلًا الوزراء- في نفس الوقت الذي يمثلون فيه النظام "system" لمن هو أدنى منهم في كل وزارة، بينما هم بالنسبة إلى رئيس الدولة أو الملك الذي يعلوهم يعتبرون أنفسهم مستوى وسيط من السلطة، وهكذا.

اقرأ/ي أيضًا: سليم بركات.. غنى أم بذخ لغوي؟

وتتميز بنية السلطة في المنطقة العربية بالمركزية الشديدة، فقمة هرم السلطة -مثلًا الرئاسة، أو القصر- لا تمنح عادة صلاحيات حقيقية واسعة للمستويات الأدنى، إلا في الأمور الإجرائية البسيطة التي لا تقلق منها السلطة، بينما في القرارات الجادة والأمور التي تتطلب قدرة حقيقية على اتخاذ القرار، يجد الوزير نفسه عادة مضطرًا إلى "الرجوع إلى السلطات العليا" حتى يتخذ القرار على مسؤوليتها، وتحت غطائها، لا على مسؤوليته. وذات الأمر هو ما يحدث داخل الهيئات والمؤسسات والوزارات نفسها، فمديرو الهيئات لا يستطيعون في الحقيقة اتخاذ أي قرارات غير اعتيادية يترتب عليها أي تأثيرات كبيرة، دون العودة إلى المستوى الإداري الأعلى -الوزير مثلًا- خشية المحاسبة وخشية الاصطدام مع اتجاهات من هم أعلى في التراتبية الإدارية من أصحاب النفوذ.

فمثلًا، لو أنك تقدمت بمقترح للجامعة للحصول على رسالة الماجستير أو الدكتوراه، وجاء عنوان بحثك أو موضوعه مثيرًا للجدل أو مخالفًا لما هو معتاد داخل الجامعة، فعادة لن يستطيع مشرفك الأكاديمي البت في المسألة دون العودة إلى عميد الكلية، والذي بدوره سيخشى البت في المسألة دون الرجوع إلى رئيس الجامعة وهكذا صعودًا حتى وزير التعليم.

يجعلك هذا الوضع في نهاية الأمر تقف أمام منظومة يوجد بها فقط مستويان من السلطة الفعلية المستوى الأول الإجرائي العملياتي البسيط والذي يتمتع به صغار الموظفين، ومستوى السلطة المطلقة العليا التي تلزم الطبقات الأدنى دائمًا بالعودة إليها في الأمور الجادة والمؤثرة والحيوية، وهو ما يعني عدم تمتعها بالصلاحيات الكافية لاتخاذ القرار، وبالتالي عدم وجود سلطة وسيطة حقيقية وفاعلة، بمعنى أن "السلطة العليا" تملأ بمركزيتها مجمل المساحة من قمة الهرم ونزولًا حتى المستوى الأدنى من العمليات!

تعود هذه الظاهرة في بنية السلطة في المنطقة العربية إلى العديد من الأسباب، لا يتسع المقام لحصرها، من بينها الهشاشة التي تستشعرها السلطة، ما يجعلها دائمًا في وضع دفاعي عن وجودها، وفي حالة حساسية دائمة من أي انتقادات أو معارضة، وكذلك في حالة حرج دائم من إجراء أي تغييرات جدية أو خروج عن المألوف.

ولهذه الهشاشة أيضًا جذورها الاجتماعية، فالصراع الاجتماعي يجعل السلطة عادة مفتقدة إلى الشرعية الكافية لإجراء تغييرات جذرية. فالرئيس الشيعي لن يحظى أبدًا بدعم الأقليات السنية، والوزير المسيحي لن يحظى أبدًا بتأييد الموظفين المسلمين، وهكذا.

وفي هذه المنظومة تلعب العديد من العوامل أيضًا دورها، كالفساد وانهيار التعليم والتضليل الإعلامي والخطاب الديني والتأثيرات الخارجية وغير ذلك، ما يجعل بنية السلطة في المنطقة العربية في نهاية الأمر تعامل نفسها ك "تابو" يخشى الاقتراب منه، وبالتالي تتحول السلطة من كونها مساحة صلاحيات ممنوحة لتحقيق إنجازات وبناء مؤسسات تعمل علي دفع المجتمعات إلى الأمام، إلى كونها مساحة صراع -لا تدافع دينامي- وعاملًا معطلًا، ومصدرًا لعجز المجتمع وانهياره.

تفتح لنا هذه الملاحظات واحدة من آفاق التعرف على اتجاهات الإصلاح داخل الدولة في المنطقة، والذي لا يمكن أن نتوقع حدوثه بقرار مفرد ومبادر من "النظام" الأعلى، كما لا يتصور انتزاعه بـ"ثورة" العمليات ذات السلطة الميكروسكوبية، وإنما بتوليد ثقافة الصلاحيات الوسيطة والتي تقوم أساسًا على الكفاءة والمسؤولية، ما يجعلنا نتأكد من أنه لا بديل عن إصلاح التعليم بمستوياته -وبالمعنى الواسع للكلمة لا بالدلالة المؤسساتية المحدودة- كباب أوحد لإحداث تغيير حقيقي في المنطقة.

فهؤلاء الذين لا يمكنهم إدارة أي سيرورة (Process) بكفاءة، لا يمكنهم أبدًا المطالبة بتغيير النظام (System)!

اقرأ/ي أيضًا:
من الجمل إلى الجَمال ومن الناقة إلى الأناقة
ليس أدبًا عربيًا