إذا كانت اللغة، وهي التي تُظهِر الواقع وتنقّب في أعماقه، "صيغةً من صيغ حبّ الآخرين"، فإنّها أيضًا تُعطي لما لا مشروعيةَ له مشروعيةً، وتنزع عن الحقيقة طابعها؛ إذ لا تخفي الواقع فحسب، بل بإمكانها العبث به وتغيير وجهته.
والأسئلة التي يطرحها الواقع السوري، والذي تكشّفت بعض ملامحه إثر انهيار النظام في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، تُعد مؤشرًا على نوعيّة الكلمات التي تنتجها هوية متشظيّة ومضطربة. أو بمعنى أدق، مجتمعات ذات بنية معقدة؛ إذ تخضع لنظام سلطويّ يفرز، عبر سياسة ممنهجة، لغةً مباشرة وفقيرة تؤدي إلى سيادة نمط تفكير يعجز فيه الإنسان عن الحكم المنطقي، فيتناقض مع نفسه؛ ويذوب حسّه الأخلاقي والجماليّ في ملوحة "الكيتش" الذي ترعاه السلطة.
إن صدمة لحظة السقوط لدى عموم السوريين لم تأت من الحدث ذاته، بل من مفردة "الأبد" التي ترسخت في لاوعيهم
فمنذ تولّي حافظ الأسد وابنه من بعده، خضعت منظومة تعليمية وثقافية وفنية كاملة لهذا الاختزال اللغوي. وعبر مراحلها، التي تصدّرها فنانو "الكيتش" ومثقفوه، سادت لغة ينحصر دورها في تسطّح الوعي وتوجيهه، سواء عبر الكلمة أو الصورة والخطاب، نحو ثنائيات متقابلة. وتمثل سينما نجدت أنزور، عبر أعماله الأخيرة (رد القضاء 2017، رجل الثورة 2017، دم النخل 2019)، مثالًا واضحًا ضمن هذا التوجه؛ إذ تعمل الصورة والكلمة في هذه الأعمال على خلق وعي سلبي، رغم حفاظها على التطهير بالمعنى الأرسطي.
وإذا كان مبدأ التطهير يعمل على تفريغ الانفعالات والعواطف المكبوتة داخل النفس الإنسانية، مما يُحدث في نفس المتفرج حالة من الهدوء والاتزان النفسي، فإن سينما أنزور بحمولتها الأيديولوجية تصادر منه كل فاعلية، عبر إبطال كل قدرة على التخيل وشحن مضاعف بسردية أحادية للخير أو الشر.
وفي سياقٍ موازٍ، فإن اللغة المفرّغة من المعنى الإنساني تؤدي إلى رؤية شمولية قاصرة، وترسم حدودًا بين الأنا والآخر (إثني، أو ديني، أو جندري). ظهر هذا بوضوح عبر النكتة التي يتداولها السوريون، والتي تعكس الجهل الثقافي بالآخر، والعنف بما يحمله من مضامين ينقسم فيها المجتمع إلى بنى عشائرية أو مناطقية وإثنية، تُشيطن الآخر أو تعزله عن الأنا. تحمل عبارة "غريب" مضامين عنفية في داخلها أو صفات هي في الغالب متوهمة أو متخيّلة. وفي المقابل، غابت مفردة "سوريا" و"المواطنة" إذ احتكرتها السلطة لصالح اسم بشار الأسد، الذي اختزلت البلاد في شخصه.
إن صدمة لحظة السقوط لدى عموم السوريين لم تأت من الحدث ذاته، بل من مفردة "الأبد" التي ترسخت في لاوعيهم. وقد عانى السوريون على مدار 54 عامًا، ومنذ زمن الأب المصاب بجنون الارتياب، الذي تحول لدى الابن إلى انفصال عن الواقع، من لغة إقصائيّة صاغت الواقع بين ثنائيات (الخضوع والسيادة، الخير والشر، المؤمن والكافر، المعارض والموال). جعل هذا سوريا تعيد تدوير مأساتها على مدار نصف قرن. فقد كان يكفي أن يُوصم أحدهم بصفة "إرهابي" حتى يُشرعَن قتله دون محاكمة، مثلما يكفي اليوم أن يُوصَف أحدهم بـ"شبيح" حتى يصبح قتله مباحًا.
ومنذ 2011، حفل المعجم السوري بعبارات جديدة للحدث ذاته وتوصيفات ذات طابع عنفي، وإن كان رمزيًا، لكنه يحمل مدلولاته (ثائر/ إرهابي)، (أحداث/ حرب أهلية/ أزمة)، (مندس/ شبيح)، (بوق/ مكوع). وامتد هذا العنف اللغوي إلى عنف واقعي. إن الحكم القيمي في السياق السوري كان مفرغًا من أي بُعدٍ إنساني لصالح أخلاقيات تستمد مشروعيتها من الدين أو الطائفة أو السلطة.
وإذا أمكن وصف الواقع السوري بالسريالي نتيجة عقود من الخوف والإفقار الذهني، فإننا يمكن أن نطلق عليه سمة "اللاأخلاقي". وعبر لغته الذرائعية التي تبرر كل وسيلة، والعنفية التي تنزع عن الآخر كل ما هو إنساني، خلق الواقع إشكالاته وسدّ كلّ أفقٍ.
يعكس ذلك قاموس لغوي يحتوي في مضمونه عنفًا، حتى لو أظهر عكس ذلك. وكمثال قريب، تلك الحادثة التي جرت بمجرد سقوط النظام، إذ تداول ناشطون على وسائل التواصل فيديو لرجل يقول لآخر: "سبحان من أعزنا وأذلكم".
والملفت أنه وبعد عدة أيام حاول شخص آخر أن يصلح الوضع بفيديو جديد يخاطب فيه سيدة عجوزًا: "سبحان من أعزنا وأعزّكم". وهذا الشرخ بين "نحن" و"أنتم" هو ذاته؛ إذ لم يختلف مضمون الخطاب في الحالين. فاللغة هنا لا تحجب الواقع، بل قد تشفُّ فتظهر عروقه المختفية. وقد تكون إثباتًا لما يريد المتحدث نفيه؛ ذلك أنها، حتى في محاولتها عكس أو إثبات حقيقة، تملك القدرة على تدميرها في آن واحد.
وفي عام 2011، أصبحت مفردة "إرهابي" صفة لمجموعة من الناس، الذين رُحِّلوا في الباصات الخضر، وعاشوا لعقد من الزمن في مخيمات لا تستر عنهم بردًا ولا حرًّا. ولم تشفع لهؤلاء مدنهم المدمرة، ولا خسارتهم لأبنائهم الذين دفنوا في مقابر جماعية، أو فقدوا عقولهم في أقبية السجون، لأي تعاطف معهم.
ومع سقوط النظام، ولأن "الزمن يغير الإشارات ويفسد المؤشرات والمفاهيم المدلول عليها والعلاقات بينها"، فقد انقلبت الآية. فالشهيد في سردية السلطة ستنزع عنه المشروعية -وهي لغوية ومعنوية في الأساس- ومع نزع صور الجنود عن الجدران واللافتات، يعاد سؤال اللغة. وبما أن الخيال اللغوي البشري يمنح الأشياء وجودها بمجرد أن يسميها، فإن الواقع يحتكره الأقوى.
إن لغة تقوم على التصنيفات، ولا شك، هي تركة ثقيلة فرضت على السوريين لنصف قرن، وهي تؤدي مفاعيلها بأثر رجعي في واقعنا الجديد. إذ أن الوعي ما زال يدور في منطقة السلطة السابقة ذاتها.
ما يجعل السؤال حول الحاجة إلى تفكيك العنف الكامن في قلب الخطاب اليومي. فتبادل الأدوار، ونزع جلد هذا ووضعه على ذاك، لا يعني في حقيقة الأمر أن تغيرًا حقيقيًّا قد حدث. إذ لم يغادر الوعي السوري منطق السلطة القديمة.
إن لغة تقوم على التصنيفات، ولا شك، هي تركة ثقيلة فرضت على السوريين لنصف قرن، وهي تؤدي مفاعيلها بأثر رجعي في واقعنا الجديد
وحتى في التجمعات السياسية الناشئة، فما زال هناك ذلك السلوك الذي يبدو كرد فعل على الظل الشبحي لسلطة تغلغلت في لغتنا وهوائنا وخبزنا. إذ يحضر النظام السابق بعلله حتى في خطاب من يرغبون بمعارضته.
وهنا يثار السؤال: إذا كانت السلطة مرآة تتشكل بفعل وعي المجتمع واستجابة له، فإلى أي مدى يمكن للسوريين أن يخرجوا نحو أفق لغوي مغاير؟
لا شك أن مرحلة جديدة ستبدأ وستطوى لغة سطا عليها الأسد منذ طلائع البعث وحتى شبيبة الثورة وحماة الديار، ولم يدّخر فيها أي وسيلة من سينما ومسرح وأدب وتعليم لوأد أي تقارب. فهل يمكن أن تلتقي لغة السوريين في منطقة جديدة انطلاقًا من ضرورتين؟ الأولى: إدراك أن المجتمع هو بوصلة نظام الحكم وهو من يصنع سلطته، لا العكس. والثانية، وهي الأهم: أن مفردة "ضحيّة" واسعة إلى درجة أن بإمكاننا أن نخوض نقاشًا مطولًا حول من يمكن أن نطلق عليهم: ضحايا اللّغة.
ــــــــــــــــــــ
مراجع:
* ألبرتو مانغويل، مدينة الكلمات (دار الساقي، ترجمة يزن الحاج/ 2016).
* جاك لوكرسل، عنف اللغة (المنظمة العربية للترجمة، ترجمة محمد بدوي/ 2005).