13-أغسطس-2015

لاجئون سوريون يصلون إلى جزيرة كوس في اليونان (Getty)

تفرز الحروب طويلة الأمد متغيرات جديدة وغير متوقعة على حياة الناس، وتتغير مفاهيم الربح والخسارة، ليس على الساحة العسكرية فقط، ولكن أيضا فيما بتعلق بمقومات العيش، ويصبح الاستقرار والمستقبل والطموح كلمات تحمل معانٍ مختلفة باختلاف عقول أصحابها ومشاكلهم في مجتمعهم الأصلي الذي عجز، أو أعجزته ظروفه القسرية، عن تحقيق شروط بقائهم فيه. فبين سورية التي تعيش حالة الحرب منذ اكثر من أربع سنوات، وأوروبا التي تراقب هذه الحرب بدم بارد، خُلقت هجرات متبادلة غرضها البحث عن حياة جديدة لأصحابها.

في الحرب تتغير مفاهيم الربح والخسارة

صورة المدينة أوروبية ملوّنة. فيها أبنية جميلة وشوارع نظيفة مزدانة بالأشجار والأزهار، وأناس يلقون التحية ويبتسمون في وجهك من دون توجّس، رغم عدم معرفتهم بك. وفيها مدارس نموذجية يرتادها الطفل من دون أن ينتاب أهله الرعب من سقوط برميل متفجر عليها. تلك هي الأشياء التي تمر في مخيلة اللاجئ السوري عندما يقرر خوض تجربة الهجرة غير الشرعية، المميتة في كثير من الحالات. إنسان هرب من الموت في بلده ليواجهه مرة أخرى في طريق هجرته إلى أوروبا طمعًا بالحياة المستقرة والتعليم الجيد في بقعة ما من مملكة الأرض. لكن الصورة ليست بهذا النقاء الذي يسكن رأس الهارب.

في المقابل، فإن صورة "دولة الإسلام الجديدة" التي تحكم بشريعة الدين وتغزو بلاد الكفر والظلم ويقدم فيها الإنسان حياته هبة للجهاد في سبيل الله، علّه يبلغ بذلك مملكة السماء بعد أن ضاقت به الحياة في مملكة الأرض وقوانينها البشرية، تمرّ في مخيلة المجاهد القادم من أوروبا. وهو مجاهد بالنسبة لكثيرين شخص غير مفهوم، أربكه ضياع هويته وتسللت الحيرة إلى عقله، مما رآه من تناقض في الدول الأوروبية التي تنادي بشعارات حقوق الإنسان، بينما تقف صامتة أمام المجازر والقتل الذي غالبًا ما ينفذ بأسلحتها، فقرر الهجرة إلى الأرض التي ستقربه أكثر من العدالة الإلهية، حسب فهمه لها، وتمنحه شعورًا بالتساوي مع الآخرين. يتوجب التوضيح هنا: هذه قراءة ناقصة أنتثروبلوجيًا. هذا ما يقال وما يشاع، وفيه من الصواب، ومن النقصان أيضًا.

وما بين البحار التي تنقل سفن مهاجرين يخاطرون بحياتهم من أجل الحياة، وسماء يحلق في أجوائها سرًّ، مجاهدون تركوا الحياة التي يحلم بها اللاجئ خلفهم، ولدت أنماط حياة جديدة يحمل أصحابها من كلا الطرفين نظرة حيرة ودهشة اتجاه الآخر ونمط تفكيره. يشعر المهاجر بغباءالمجاهد الأوروبي الذي أعطته الحياة فرصة العيش بحرية وسلام لم يدرك قيمتهما وأهميتهما، والأكثر من ذلك الشعور بالنقمة اتجاه المجاهدين الذين، بفضل الوحشية التي مارسوها بحق أصحاب الأرض الأصليين، إلى جانب جرائم النظام الذي فرش لهم سجادًا أحمر واستقبلهم، فشكلوا عاملًا إضافيًا لهجرة السوري لا يقل أهمية وخطورة عن أسباب هربه من بطش نظام الأسد.

شعور اللاجئ بالاستيلاء على أرضه والهجرة منها بحثًا عن الأمان بعدما وصل إلى مرحلة ما يمكن تسميته بـ"الحرمان المطلق" من الغذاء والمسكن والعلاج، يُواجه بشعور المجاهد بـ"حرمان نسبي" جعله يرى أن ما يحصل عليه في الحياة لا يتناسب مع طموحاته وأقل مما يستحقه. الأمر الذي جعله يفكر بالهجرة للجهاد ليحصل على الصورة التي يريد أن يرى نفسه عليها، وهي المخلّص القادم لإقامة العدل ودرء الظلم بقوة السيف، وإعادة إنتاج صورة البطل الأسطوري الذي يقف مع الضعفاء ضد الاستبداد. يحلم أن يعيش حياة مليئة بالغرابة والإثارة والسعي إلى الموت، في صورة معاكسة تمامًا لحياته السابقة، حيث كل متطلبات العيش الكريم والهادئ متوافرة لديه. لذلك شكلت هذه الهجرات المتبادلة فلسفة ثنائية القطب تطرح تساؤلات حول أهمية وجود الحياة وشروط الاستمرار فيها والجدوى من فقدانها ولأجل أي مقابل. لكن مهلًا: يتوجب الاعتراف. الهارب واقعي، والمجاهد أسطوري.

على الأرجح، ستستمر هذه الهجرات المتبادلة طالما أن ثمة بلد مفتوح على الصراع والقتال. وسيبقى البحر والسماء نقطة التقاء عابرة ما بين مهاجر يحلم أن تطأ قدماه أرض السعادة والأمان والمستقبل المنتظر، ومجاهد توّاق لدق طبول الحرب والموت، في نعوش السوريين.