23-مايو-2016

خمسة عادلين يعتلون نسر العدل المكَّون من أرواح العادلين في الفردوس. لوحة لـ جيوفاني دي باولو

يقول الشاعر الإنجليزي الشهير تي إس إيليوت: "إن العالم الحديث منقسم بين دانتي وشكسبير، وليس ثمة ثالث بينهما". لا شكّ أنّ الشروع في قراءة الكوميديا الإلهية لشاعر إيطاليا الأعظم دانتي ألغييري سيعترضه عقبات عديدة، فهذا العمل الخالد يشتمل على الكثير من الإشارات للآداب الكلاسيكية وعلم اللاهوت في العصور الوسطى والشؤون السياسية الإيطالية والكثير من القضايا الأدبية التي لا يزال الباحثون يتجادلون حولها ويختلفون. 

تي إس إيليوت: "إن العالم الحديث منقسم بين دانتي وشكسبير، وليس ثمة ثالث بينهما"

كما أنّ هنالك العديد من الترجمات التي تتباين جودة (ولعلّ أشهرها في العربية ترجمة الدكتور كاظم جهاد الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، وهي ترجمة ذات مقدمة ومهمّة تساعد القارئ على الخوض في غمار هذا العمل العظيم، ومن قبلها بالطبع ترجمة المترجم المصري الراحل حسن عثمان، وهي الترجمة الرائدة للكوميديا الإلهية، التي تمتاز بسبكها المتين وبلاغياتها العالية). 

اقرأ/ي أيضًا: أندريس نيومان.. شعر يملأ فراغ الحاضر

الكوميديا الإلهية قصيدة ملحميّة تتألف من 14 ألف سطر شعري تقريبًا تصف رحلة دانتي بين الجحيم والمطهر والفردوس. تبدأ القصّة باستيقاظ دانتي من نوم عميق وهو تائه في غابة مظلمة. وبعد عدة محاولات فاشلة في الهروب يلتقي دانتي بالشاعر فيرجيل، الذي بدوره يخبر دانتي بأنّ الطريق الوحيدة للخروج هي بالعبور من مركز الأرض مرورًا بالجحيم. فيقود فيرجيل دانتي عبر الجحيم فيشاهد فيها مشاهد مرعبة من العذاب ويلتقي فيها بالعديد من الشخصيات التي ذُكرت في الكتاب المقدس والآداب الكلاسيكية. 

وتنتهي الرحلة في الجحيم بلقاء مع إبليس ثم يهربان من هناك وينتقلان إلى المطهر. يصعد الاثنان جبل المطهر ويلتقيان بأولئك الذين ينتظرون الذهاب إلى الفردوس في رحلة تطهرهم. وهنا أيضًا يلتقي دانتي بشخصيات حقيقية وخيالية كلّ منها له حكاية يخبرها. وقرب ذورة جبل المطهر يغيّر دانتي مرشده في الرحلة ويتابع نحو الفردوس وصولًا إلى رؤية الرب. 

دانتي ألغييري

ولد دانتي ألغييري في فلورنسا عام 1265 وتلقى تعليمًا جيدًا وتأثّر كثيرًا بكتابات الشاعر الروماني فيرجيل، وخاصّة ملحمة الإنياذة. كما لعبت الظروف السياسية في فلورنسا الإيطالية دورًا هامًا في كتابة الكوميديا الإلهية واختيار شخصياتها. 

رغم زواج بياتريس من غيره، لم يتعاف دانتي من موتها، فظهرت في قصيدته ممثّلة لكل ما هو خيّر وجليل

لقد سيطرت على تلك الفترة التاريخية في إيطاليا صراعات على السلطة بين مجموعتين أساسيتين وهم الغويلفيون (الصنعة والأغنياء الجدد غير المنتمين إلى النبلاء) والغيبيليون (من الطبقة الأرستقراطية وقدامى العائلات الغنية). وقد كانت السلطة للغويلفيين لفترة طويلة، وكان دانتي نفسه صاحب منصب في الحكومة لفترة من الفترات. ولكنّ شقاقًا دبّ في صفوف حزب الغويلفيين جعلهم ينقسمون بينهم إلى طرفين: الغويلفيين البيض (الذين ينتمي إليهم دانتي) والغويلفيين السود. وانتهى الأمر بالبابا بونيفاس الثامن بالانحياز إلى طرف الغويلفيين السود، وكان مصير دانتي النفي من فلورنسا. ولعل هذا ما جعل دانتي يضع البابا بونيفاس الثامن في الجحيم في ملحمته. 

اقرأ/ي أيضًا: أيوب عمريش.. سندباد المسرح في الجزائر

كتب دانتي الكوميديا الإلهية وهو في المنفى بعيدًا عن مدينته المحبوبة فلورنسا (والتي لم يقدر له العودة إليها). ولذا نجد موضوعي المنفى والخلاص يتكرران كثيرًا في الملحمة. كما يظهر العديد من أصدقاء دانتي السياسيين في القصيدة في أجزائها المختلفة. أما شخصية بياتريس التي ظهرت في القصيدة فيعتقد أنّها شخصية لامرأة حقيقية تدعى بياتريس بورتيناري كان دانتي قد وقع في حبّها في فلورنسا. ولقد مانت بياتريس صبيّة وكان عمرها 24 عامًا ولكنّ دانتي رغم زواجه من غيرها لم يتعاف من موتها، فظهرت في قصيدته ممثّلة لكل ما هو خيّر وجليل. 

الكوميديا والشعر

تشير الكوميديا إلى أنّ للعمل نهاية سعيدة وأنّه مكتوب باللهجة المحكيّة كما أنّ في الملحمة بعض المواقف التي تدعو للعجب. ويمكن قراءة الكوميديا الإلهيّة على مستويات عديدة، فيمكن قراءتها شعرًا وملحمة، كما يمكن أن تقرأها كعمل سياسي ولاهوتيّ. لقد كتب الكثير من الأعمال عن رائعة دانتي الخالدة ولا يزال الناس فيها مختلفين. 

كانت ملحمة دانتي العمل الأول الذي كتب بالإيطالية المحكيّة، رغم أنّ العادة قد درجت على كتابة الشعر الكلاسيكي باللاتينية الرسميّة. وللرقم 3 في الملحمة رمز مهمّ يشير إلى الثالوث المقدّس في المسيحية. فالملحمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، كل منها فيها عدد من الأنشودات. القسم (النشيد) الأول هو الجحيم، وفيه 33 أنشودة مع أنشودة تمهيدية. والثاني هو المطهر، وفيه 33 وثلاثون أنشودة، والفردوس وفيه أيضًا 33 أنشودة. تتألف كل أنشودة من مقاطع ثلاثية كتبت بأسلوبٍ يشعر القارئ فيه عند تلاوتها باللغة الأصليّة وبالترجمات الجيّدة أنّه يدفع الحكاية دفعًا إلى الإمام للمضيّ قدمًا في رحلة دانتي الطويلة في العالم الآخر بين جحيم ومطهر وفردوس. 

وللكوميديا الإلهيّة في اللغة العربية أربع ترجمات متوفرة في الأسواق وهي ترجمة المصري حسن عثمان، وترجمة العراقيّ كاظم جهاد وترجمة السوري حنّا عبود (عن الإنجليزية). وثمة ترجمة رابعة صدرت عام 2018 عن دار مدار، أنجزها المصريان عبدالله عبدالعاطي النجار، وعصام السيد علي، وبالرغم من حداثتها إلا أنها ما تزال ترجمة مغمورة لم يدر الكثير من الحديث عنها من مراجعة أو نقد. 

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

تيسير خلف.. تدمر أكبر من مجرد آثار

معرض فلسطين للكتاب.. لم يفتكم الكثير