26-أبريل-2018

يتفاخر فلاديمير بوتين بقدرات جواسيس استخباراته ويعتبره مجالًا للدعاية العلنية (Getty)

منذ نهاية الحرب الباردة، لم يتوقف التنافس الدعائي والاستعراض بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، بخصوص القدرات الاستخباراتية وتقنيات التجسس. وفي الفترة الأخيرة، بدا أن هناك تركيزًا في الإعلام الروسي، وخاصة الوكالات الرسمية، على ما يسمونه هوسًا أمريكيًا وأوروبيًا بمخاطر التدخل الروسي في الشؤون الداخلية، خاصة بعد الأحاديث الكثيرة التي قيلت حول التدخل في الانتخابات الأمريكية، والتي أطاحت بعدد غير قليل من صقور إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. في المقابل، تقول جهات أمريكية وأوروبية إن هذا الاهتمام بالتدخل الروسي ليس هوسًا، وإنما حذر يستمد شرعيته من التاريخ "الأسود" للاستخابارت الروسية. في هذا التقرير المترجم عن موقع مجلة "أوبزيرفر" الأمريكية، يطل ألترا صوت على نقاش حامٍ في الإعلام الروسي والغربي حول الموضوع.


لقد ظلت الاستخبارات الغربية هدفًا لجواسيس الكرملين منذ قرن من الزمان، منذ أن استولت الثورة البلشفية على السلطة في روسيا. على مدى مئة عام، سعى الجواسيس الروس، أو الـ Chekists وهو المصطلح الذي يفخر به الرئيس فلاديمير بوتين، إلى كسب حرب الجاسوسية ضد الغرب من خلال التفوق على الجواسيس الأمريكيين في الصراع المستمر بين وكالات التجسس. إن انتصارات موسكو في السنوات الأخيرة، تحديدًا في عملية سنودن وما أسفر عنها من هجوم تجسسي دعائي ضد الديمقراطيين في انتخابات عام 2016، لم يسبق لها مثيل في سجلات التجسس في الكرملين.

سعى الجواسيس الروس لكسب حرب الجاسوسية ضد الغرب من خلال محاولة التفوق على الجواسيس الأمريكيين

ومع ذلك، لم يكتف هؤلاء الجواسيس بهذا الحد من المجد. إن دعايتهم، والتي تستهدف إلحاق الأذى بالمخابرات الغربية وتقليص مصداقيتها مستمرة بلا هوادة. وكما أوضح رئيس الاستخبارات المضادة لمجتمع الاستخبارات الأمريكي مؤخرًا، فإن أكثر من مليون وثيقة سرية جمعها إدوارد سنودن لا تزال تنشر حتى الآن، واحدة تلو الأخرى، بعد مضي قرابة خمس سنوات على وصول المنشق إلى موسكو، مما ألحق الضرر بالمخابرات الأمريكية والغربية أكثر من أي وقت مضى.

إن مكافحة التجسس الغربية، أي الأشخاص والهيئات التي تحمي الأسرار الغربية ومحاولة منع التجسس الأجنبي، كانت دائمًا ذات أهمية كبيرة للكرملين ولوحداته الخاصة. خلال الحرب الباردة، حاولت الاستخبارات الروسية جاهدة اختراق وكالات مكافحة التجسس الغربية، وكثيرًا ما حقق ذلك درجة من النجاح المثير للانزعاج الغربي، وتدفق تيار مستمر من النقد اللاذع والشتائم، التي غالبا ما كانت خالية من الحقائق، بهدف تشويه سمعة الوكالات الغربية.

على مدى عقود، كان مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، وهو وكالة مكافحة التجسس المهيمنة في الولايات المتحدة، هدفًا خاصًا لتضليل المخابرات الروسية، خاصة عندما كان يرأسه إدغار هوفر، الرجل الغريب الموهوب الذي قاد المكتب لمدة نصف قرن حتى عام 1972. وكشفت أرشيفات الاستخبارات الروسية بعد الحرب الباردة عن نجاح جواسيس السوفييت في استهداف هوفر وتشويه سمعته. حتى يومنا هذا، لا يزال بعض الأمريكيين يتهامسون بالمزاعم الدنيئة بشأن حياة هوفر الشخصية: على سبيل المثال، أنه كان شاذًا صاخبًا، حتى أنه كان يحضر حفلات مرتديًا فستانًا ووشاحًا من الريش. قليلون هم من يعرفون أن هذه القصص قد تم إعدادها من قبل متخصصي التضليل في الاستخبارات الروسية في موسكو وليس لها أساس في الواقع.

اقرأ/ي أيضًا: "روسيا اليوم".. صناعة الوهم البوتيني

لم يتغير شيء منذ الستينيات، عندما كان الكرملين ينشر الأكاذيب بالتبادل مع مكتب التحقيقات الفيدرالي. يستمر نفس الصراع إلى اليوم، كما شهدته التغطية الصحفية الأمريكية الملتوية التي تزعم أن مكتب التحقيقات الفيدرالي منحرف ومسيس وليس كفؤًا. الفرق الوحيد هو أنه في حين أن اليسار كان ينشر مثل هذه الأساطير في ذلك الوقت، وفي بعض الأحيان بمساعدة الكرملين المباشرة، فإن اليمين اليوم هو من يشن هذه الحملة ضد مكتب التحقيقات الفيدرالي، في محاولته اليائسة لحماية دونالد ترامب من علاقاته الروسية الخاصة. ليس معروفًا إلى أي مدى يتلقى الجمهوريون مساعدة روسية سرية على مهاجمة مكتب التحقيقات الفيدرالي اليوم، لكن يجب التأكد من ذلك، في ضوء أسلوب عمل الكرملين المعتاد، على سبيل المثال، مشاركة الاستخبارات الروسية في نشر معلومات مضللة للغاية حول اغتيال الرئيس جون كينيدي.

كما أن موسكو مصرة على البقاء في الماضي. يمكن استخدام الأمثلة التاريخية لتشويه سمعة مكافحة الجاسوسية الغربية في الوقت الحاضر، مما يعني أن مهمتهم غير شرعية. اليوم، أذاعت RT، شبكة الدعاية التابعة للكرملين التي كانت تعرف في السابق باسم روسيا اليوم، تقريرًا ينتقد جهاز المخابرات الحربية البريطاني، المعروف باسم MI5، لإخضاعه موظفي هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" للفحص الأمني. أثناء الحرب الباردة، يشرح هذا المقال، أن MI5 كان يخضع موظفي هيئة الإذاعة البريطانية للفحص، لإبعاد "اليساريين الأشرار المخربين" في رواية آر تي، لمعرفة ما إذا كانت لديهم روابط مع الكتلة السوفيتية.

طوال فترة الحرب الباردة، ظلت هيئة الإذاعة البريطانية هدفًا ذا أولوية عالية للتجسس والدعاية السوفييتية

وقد أوضحت "آر تي" أن فحص البي بي سي هذا صُمم لإبعاد أعضاء المنظمات اليسارية المتطرفة واليمينية المتطرفة: البلاشفة والنازيين، بشكل أساسي. لا يبدو الأمر غريبًا في منتصف الحرب الباردة، بعد زمن غير بعيد من هزيمة ألمانيا النازية، لإبقاء هؤلاء المتطرفين خارج وكالة الإذاعة الحكومية البريطانية، ولكن آر تي تصوِّر هذا بطبيعة الحال على أنه ظالم، نقلاً عن امرأة تدعي أنها منعت من العمل مع هيئة الإذاعة البريطانية في عام 1976 لأسباب أمنية، ولا تزال غاضبة حيال ذلك. لم تذكر، بالطبع، أي أسباب وراء قلق «بي بي سي» في أثناء الحرب الباردة حول التسلل من قبل المخربين والمخابرات الأجنبية المعادية. مثل هذه الأشياء موجودة فقط في عالم المذعورين، وفقًا لآر تي والمعجبين بها. لكن الحقائق تحكي قصة مختلفة.

في الحقيقة، كانت هيئة الإذاعة البريطانية هدفًا رئيسًا لاستخبارات الكرملين لعدة عقود، وشملت صفوفها العديد من الجواسيس الشيوعيين. ولأخذ المثال الأكثر شهرة، تم تجنيد غاي بورغيس، وهو أحد أعضاء "عصابة الخمس" للجاسوسية الشهيرة في كامبريدج، للعمل سرًا في مجال الاستخبارات السوفياتية في عام 1934. وبناء على طلب موسكو، حصل على وظيفة في الدوائر الرسمية البريطانية، بدءًا من بي بي سي من عام 1936 إلى 1938. أثناء عمله مع الشبكة، عمل بورغيس كمنسق للمقابلات، وكان حريصًا على تقديم وجهة نظر موسكو في ضوء ملائم كلما أمكن ذلك. غادر بورغس هيئة الإذاعة البريطانية ليحصل على وظيفة مع جهاز المخابرات السري البريطاني، المعروف باسم MI6 ، حيث عمل لمدة 13 عامًا، وسرب أسرارًا لا تعد ولا تحصى لعملاء موسكو، حتى فر إلى موسكو عام 1951. من الواضح أن فحص جهاز MI5 لموظفي بي بي سي لم يكن فعالاً على الإطلاق، لأن بورغس لم يفعل الكثير لإخفاء تعاطفه مع اليسار المتطرف، ولكن لم يكن الأمر كذلك أيضًا مع MI6.

اقرأ/ي أيضًا: بوتين المؤسطر في الإعلام السوري

طوال فترة الحرب الباردة، ظلت هيئة الإذاعة البريطانية هدفًا ذا أولوية عالية للتجسس والدعاية السوفييتية، ولا سيما الإذاعة العالمية "BBC World Service"، التي مثلها مثل نظيرتها الأمريكية راديو ليبرتي، تبث الأخبار إلى العالم الشيوعي بلغاتهم. رأت الاستخبارات الروسية أن تلك الإذاعة الغربية تسبب "أذى هائل" للكتلة السوفياتية، وكانت تخترق بشكل منتظم من قبل جواسيسهم وليس فقط الجواسيس السوفياتيين. أدارت يوغوسلافيا في أثناء حكم تيتو، التي كانت مهتمة مثل موسكو بمحتوى بي بي سي الموجه إلى الخارج، شبكة كاملة من الجواسيس داخل الإذاعة العالمية منذ الخمسينيات وحتى انهيار الاتحاد اليوغوسلافي في عام 1991.

جهاز الأمن الفيدرالي، الذي ترأسه بوتين في التسعينات، لا يعمل فوق القانون، بقدر ما هو نفسه القانون في روسيا اليوم!

يبدو، إذن، أن فحص MI5 لموظفي بي بي سي كان متساهلاً أكثر من اللازم، حيث أن عدد الوكلاء الشيوعيين، الذين نعرفهم الآن، الذين كانوا يعملون داخل الشبكة أثناء الحرب الباردة يتزايد مع زيادة إمكانية الوصول إلى أرشيف التجسس، والأسرار التي يفشيها الجواسيس القدامى على فراش الموت. على عكس تقييم آر تي، فإن مشكلة التدقيق الأمني ​​للبي بي سي هي أنه لم يكن كافيًا.

ناهيك عن أنه لا يجدر للكرملين الشكوى من أي تدقيق أمني غربي، نظراً للسيطرة الهائلة على المجتمع الروسي الذي تمارسه دائرة الأمن الفيدرالية أو FSB، خلف الفرع المحلي لجهاز الاستخبارات الروسي، والذي يقزم أي وكالة أمن محلي غربي في حجمها ونطاقها وسلطتها على البلاد. إن جهاز الأمن الفيدرالي، الذي ترأسه بوتين في التسعينات، لا يعمل فوق القانون، بقدر ما هو نفسه القانون في روسيا اليوم. في حين تعمل MI5 وجميع أجهزة الأمن الغربية داخل إطار قانوني محدد، يمكن لجهاز FSB أن يفعل ما يريد إلى حد كبير، بما في ذلك قتل معارضي النظام وتنفيذ إرهاب العلم الزائف، دون خوف من العقاب أو العواقب، طالما أن بوتين في السلطة.

في غضون ذلك، تواصل الوكالات التابعة للكرملين والتي لا تخضع للقانون،  تشويه العمل الذي تمارسه الوكالات الغربية على نحو متزايد. والسبب في ذلك ليس غامضًا، لأن هذه الهجمات الإعلامية تهدف إلى إضعاف المؤسسات نفسها المكلفة بالتصدي للتجسس الروسي والدعاية التي تستهدف الغرب. الفريد في الأمر، هو طبيعة التحولات التي تطرأ على من يتبنى خطاب كل طرف، حلفاء الكرملين يتبدلون من اليسار إلى اليمين، كما أن عمل الوكالات الاستخبارية الغربية لم يكن يومًا بدوافع إنسانية بيضاء!

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تعزل موسكو نفسها دوليًا؟

حرب "روسيا اليوم" في لندن.. ورطة إعلام الكرملين في الأطلسي!