28-سبتمبر-2022
روسيا على تليغرام

تتزايد الاحتجاجات المناهضة للتجنيد في روسيا (Getty)

عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمر التعبئة الجزئية لجنود الاحتياط في الجيش الروسي في 21 أيلول/سبتمبر الماضي، رأى كثيرون في ذلك تصعيدًا جديدًا ومتهوّرًا، على الصعيد الداخلي والخارجي، لاسيما وأنه ترافق مع تلميح أو تلويح باستخدام الترسانة النووية من أجل الدفاع عن روسيا، لو لزم الأمر، بحسب إعلان بوتين. 

تخوض السلطات الروسية حربًا إعلامية على تليغرام للحشد لقرار التعبئة 

واتهم بوتين الغرب في خطابه المتلفز بأنه المسؤول عن أية "كارثة نووية"، في إشارة منه إلى الدعم الغربي المستمر لأوكرانيا بالسلاح التدريب، كما وأعلن عزم موسكو دعم الاستفتاءات التي جرت مؤخرًا في مناطق تسيطر عليها القوات الروسية في أوكرانيا، تمهيدًا لضمها رسميًا إلى روسيا. 

إلا أن أمر التعبئة الجزئية في روسيا ليس بالأمر السهل، خاصة مع استطالة أمد الحرب، وتراجع التأييد الشعبي لها بحسب بعض التقارير، وهو ما فرض على بوتين الاهتمام بمعركة أخرى داخلية موازية، تتمثل  في كيفية "تجييش" الشعب الروسي،  وإقناع الشباب خصوصًا بمزايا التجنيد، ومواجهة الدعاية المضادة للتجنيد والتي تخوّف من المخاطر الحتمية المرتبطة بذلك، واتهام السياسيين بالتضحية بدماء الشباب من أجل مآرب توسعية غير شرعية. هذه الحرب الدعائية كان ميدانها تطبيق "تليغرام"، وهو أحد التطبيقات الأكثر تأثيرًا في روسيا وما يجاورها. 

russia

بحسب تقرير لمجلة "إم آي تي" للتقنية، فإن لتليغرام "خصوصية فريدة في روسيا"، إذ يعتبر بأحد الأوجه "رمزًا للحرية على الإنترنت"، وهو الأمر الذي تؤكده "آلينا إبيفانوفا"، الأستاذة المختصة بالشأن الروسي في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية (German Council on Foreign Relations). 

يعد تليغرام أحد المنصات المعدودة التي نجت من محاولات السلطات الروسية لقمع حرية التعبير عبر الإنترنت ضد الحرب وبوتين، علمًا أن موسكو حاولت في عام 2018 حظر تليغرام كجزء من حملة أوسع لتقييد الحريات على الإنترنت، لكنها فشلت في ذلك، ويعود الفضل في ذلك جزئيًا إلى الطريقة التي يعمل بها التطبيق، حيث يعيد توجيه الرسائل خارج روسيا وبعيدًا عن قدرة الهيئات الناظمة للاتصالات في البلاد على التحكم بها. كما يعزى ذلك من جهة أخرى إلى ذكاء المستخدمين وتحايلهم على القيود المفروضة على الشبكة، عبر الاعتماد على الشبكات الافتراضية والحرص على اتباع أساليب تحول دون تعقب السلطات لهم، وتتجاوز مشاكل الحجب والتقييد. 

هكذا، وأمام حالة الفشل في السيطرة على تليغرام، قررت الحكومة الروسية مسايرته والانضمام إليه، والتفكير بسبل للاستفادة منه ما دام هو التطبيق الذي يلجأ إليه الكثير من الناس بحثًا عن المعلومات والأخبار، فعمدت إلى إنشاء قنواتها الخاصة التي تروّج للدعاية المؤيدة للكرملين والرئيس الروسي. 

ومنذ بدء الغزر الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير الماضي، صار تليغرام مصدرًا مهمًا للمعلومات حول الحرب وتطوراتها ومجرياتها بشكل عام، وتزايدت أهمية التطبيق لكلا الطرفين، في روسيا وأوكرانيا، حيث يشارك كلا الجانبين تحديثات يومية حول المكاسب العسكرية والخسائر التي مني بها الخصم، ويتم تضخيم هذه الدعاية عبر قنوات ذات تأثير واسع محليًا وعالميًا. 

تليغرام

وكما كان متوقعًا، بدأت كتيبة من قنوات تليغرام الموالية للكرملين، فور إعلان قرار التعبئة، ببث رسائل وطنية وعكسرية، وتوضح التهديد الذي قد ينال مستقبل البلاد في حال عدم الاصطفاف بشكل مطلق وراء توجيهات القيادة العليا، وتفند كل الانتقادات والمخاوف جراء الانضمام والمشاركة في الحرب. وبحسب ما نقلت المجلة عن إيليا يابلوكوف، المحاضرة في مجال الصحافة والوسائط الرقمية في جامعة شيفيلد البريطانية، فإن هذه القنوات قد قدمت استجابة سريعة ومنظمة لمواجهة الروايات التي تنتقد الدولة وسياساتها، أو التي تنقل صورة سلبية عن وضع الجيش الروسي وتعثره في أوكرانيا. 

كما شاركت القناة الرسمية التابعة لوزارة الدفاع الروسيةعلى تليغرام رسائل دعائية تبرر قرار بوتين، وتضخم مستوى الدعم الشعبي لإعلانه التعبئة، عبر صور ومقاطع فيديو بمؤثرات خاصة تحاول الإشارة إلى الإقبال الكبير على التجنيد بين صفوف المعنيين بالقرار، في حالة من الحشد والتعبئة المعنويّة التي تدل بحسب مراقبين على "لحظة صعب" في الحرب الروسية، وإدراكًا متزايدًا من قبل القيادة في موسكو لضرورة السيطرة على الجبهة الداخليّة وتماسكها، أو تشكيل صورة على الأقل عن تماسكها خلف الرواية الرسمية، وذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة في البلاد، ولاسيما تليغرام. 

ونشرت قنوات أخرى موالية للكرملين صوراً من مكاتب التعبئة لرجال يسجلون "طواعية" للقتال، وهي صور تروج  بطبيعة الحال إلى فكرة أن الحرب التي يخوضها بوتين عادلة ويمكن الفوز بها، وأنها موضع توافق شعبي عام.

دعاية ناجعة؟ 

ليس بوسعنا الجزم إذا كان هذا الأسلوب في الدعاية والبروباغندا ناجعًا على المستوى الشعبي أم لا. فعلى الرغم من كل العمل الذي تقوم به الحكومة والمؤسسات التابعة لها لمحاولة السيطرة على السردية، فإن هناك معارضة نشطة على نفس المنصة تعمل على تقويضها، وتحاول تقديم الدعم لأولئك الذين يسعون إلى تفادي التجنيد والتهرب منه. فثمة جماعات روسية مناهضة لبوتين وحربه على أوكرانيا، تنشر عبر قنوات على تليغرام اقتراحات وحيل على الشباب، وتحاول التأثير على محاولات الدولة لجرّ المزيد من الناس إلى الحرب. 

فبعد دقائق فقط من إعلان بوتين أمر التجنيد الإجباري، أعلن أفراد في مجموعة مناهضة للكرملين تحت اسم "روزبارتيسان" عن "تعبئة" خاصة بهم، هددوا فيها باستهداف ضباط التجنيد العسكري ومقرات وزارة الدفاع بزجاجات المولوتوف. وكتبوا: "الروس مدعوون للموت عبثًا في أرض أجنبية". ونشروا شعارات ورسائل عديدة تدعو إلى "نشر الحقيقة، وعدم إضفاء الشرعية على أعمال الحكومة الروسية". ونشرت المجموعة التي يشارك فيها الآلاف صورًا ومقاطع تزعم أنها توثق عمليات ضد التعبئة العسكرية، حيث تتم خلالها مهاجمة مكاتب حكومية محلية وحرقها.

ثمة قنوات أخرى على التطبيق تقترح على المواطنين وسائل بديلة غير عنيفة لتفادي التجنيد ومعارضته، من بينها نصائح بشأن السفر خارج البلاد. إحدى هذه القنوات تقدم المشورة والنصائح حول كيفية العبور من روسيا إلى جورجيا، ويكاد يصل عدد المشتركين فيها غلى 100 ألف حساب، وهي مجموعة أنشئت في نهاية العام 2020، لكنها نشطت بشكل لافت في الفترة الماضية، وقدمت معلومات للراغبين في السفر حول كيفية حجز تذاكر مغادرة نحو جورجيا، وكيفية السفر الآمن والتعامل مع الحيوانات الأليفة وتأمينها. 

أما بالنسبة لأولئك الذين لم يفلحوا بالسفر لتفادي التجنيد، فثمة نصائح أخرى حول كيفية تجنب الاستدعاء، وتوفر قائمة بالأماكن التي بدأ بها التجنيد بالفعل، وتعرض صورًا وخرائط ومقاطع فيديو لتوثيق حملات التجنيد الإجباري التي تقوم بها السلطات الروسية، وجميعها معلومات لا يمكن مشاركتها بشكل عام، وتعد تليغرام هي الطريقة الوحيدة المتوفرة داخل روسيا من أجل تداولها. 

يقول يفغينيف غولوفتشينكو، الباحث في مجال المعلومات المضللة والرقابة في جامعة كوبنهاغن: "لن ترى الكثير من المكالمات أو النصائح حول وسائل الإعلام القائمة حول كيفية تجنب التعبئة، ولن تجد ذلك إلا على تطبيق تليغرام". 

ويضيف غولوفتشينكو أن الكرملين يحاول جاهدًا تدارك السيطرة والتأثير على تليغرام، بسبب شهرته الحالية في روسيا، ولاسيما بين الفئات المعارضة للحرب، والتي ما يزال أمامها شوط كبير لتعزيز الموقف المناهض لجعل الحرب واقعًا في حياة الناس اليومية في روسيا. 

يحاول الكرملين جاهدًا تدارك السيطرة والتأثير على تليغرام، بسبب شهرته الحالية في روسيا، ولاسيما بين الفئات المعارضة للحرب وللكرملين

يشار إلى أن جهات حقوقية روسية قد وثقت آلاف عمليات الاعتقال التي طالت مناهضين للحرب في أوكرانيا، منذ اندلاعها في 27 شباط/فبراير الماضي، كما اندلعت مظاهرات في عشرات المدن الروسية خلال الأيام الماضية احتجاجًا على قرار التعبئة، شملت موسكو وسانت بطرسبرغ، اعتقلت الشرطة خلالها أكثر من 2400 شخص. رغم ذلك، يحاول الكرملين جاهدًا التعتيم على هذه الحالة من الرفض في الشارع الروسي لقرار بوتين الأخير، وذلك عبر التأكيد على تقصّد التضخيم الغربي لأخبار المظاهرات وحركة النزوح الجماعي هربًا من التجنيد.