أحدثت التكنولوجيا تغييراتٍ كبيرة على مشهد إنتاج الأسلحة والعمل العسكري ككل. واللافت في هذا الصدد هو إمكانية إنتاج أنظمة عسكرية دقيقة بكميات كبيرة وعلى نطاق واسع، على عكس ما كان عليه الحال في الماضي، حيث كانت الدقة تتعارض مع الإنتاج الضخم. لكن اليوم، وبفضل التكنولوجيا المتطورة، أصبح من الممكن الحديث عن مفهوم "الكثرة الدقيقة".
تطور مفهوم الكثرة الدقيقة
في الأسابيع الأخيرة، احتدم النقاش في الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية بين دوائر الصناعات الدفاعية وعملائها حول جدوى الاعتماد على الطائرات المقاتلة التقليدية ذات التكاليف الباهظة، خصوصًا في ظل الضغوط المتزايدة على الميزانيات والنتائج الميدانية التي حققتها الطائرات المسيّرة من حيث قدرتها على التدمير. وقد برز هذا جليًا في الحرب الأوكرانية-الروسية.
كانت الجيوش سابقًا أمام خيارين: الأول هو استخدام أعداد كبيرة من الأسلحة غير الدقيقة لتحقيق أهدافها، والثاني هو اللجوء إلى الأسلحة الدقيقة بأعداد قليلة ومحدودة. في تلك الفترة، كانت الدقة صفةً تنطبق فقط على الأنظمة العسكرية عالية التقنية، والتي كانت محدودة العدد وباهظة الثمن.
مكّن التطور التكنولوجي من إنتاج أسلحة دقيقة مثل المسيرات والصواريخ الموجّهة بتكلفة أقل وبكميات كبيرة
نهاية التناقض بين الكمية والدقة
لكنّ هذا التناقض بين الدقة والكمية أصبح شيئًا من الماضي بفضل التطورات التكنولوجية في السنوات الأخيرة. فقد مكّن هذا التطور من إنتاج أسلحة دقيقة مثل المسيّرات والصواريخ الموجّهة بتكلفة أقل وبكميات كبيرة. الأمر الذي أتاح لجهات فاعلة جديدة - سواء كانت دولًا صغيرة أو حتى فاعلين دون الدولة مثل الجماعات المسلحة - امتلاك هذه القدرات العسكرية، مما يعيد تدريجيًا تعريف القوة العسكرية في عالمنا اليوم.
وتعليقًا على هذا التطور، يقول الخبير العسكري الإيطالي فيليبو ديل مونتي: "إن الكمية والدقة كانا يُعتبران، حتى وقت قريب، مفهومين متعارضين في فن الحرب وفي الوظيفة التي يؤديها نظام السلاح في ساحة المعركة. لكن الحرب الروسية-الأوكرانية والصراع في الشرق الأوسط ونشاط جماعة الحوثيين في البحر الأحمر فتح الطريق لما أسماه بعض الخبراء 'الكثرة الدقيقة'."
النقلة النوعية في الصناعات العسكرية
يتعارض مفهوم "الكثرة الدقيقة"، وفقًا لديل مونتي، مع النهج السائد في الغرب حتى وقت قريب. فقد كان يُعتقد أن الأنظمة التي تعتمد على الكمية (أي الأسلحة التي يمكن إنتاجها بكميات كبيرة ولكنها أقل دقة وتطورًا) أقل فعالية من الأنظمة التي تعتمد على الجودة (أي الأسلحة المتطورة والدقيقة).
خلال الحرب الباردة، اعتمدت الولايات المتحدة والدول الأوروبية على "تطوير أنظمة تكنولوجية متقدمة جدًا، مصممة بطريقة لا يمكن للخصوم تقليدها أو التوسع فيها". الهدف الأساسي من هذا النهج كان ضمان التفوق التقني والهيمنة على العمليات العسكرية. في الماضي، كان القادة العسكريون يركزون على حشد القوات لضمان نجاح هجوم واحد في نقطة محددة. لكن اليوم، أصبحت الدقة متاحة بفضل التقدم التكنولوجي.
التحديات الجديدة والانتقادات للصناعات التقليدية
في مواجهة التحديات الجديدة، تحتاج الدول اليوم إلى تبنّي استراتيجيات تتناسب مع التطورات الراهنة في مجال الحروب والتكنولوجيا. ويجب التركيز على تطوير أنظمة تجمع بين الكمية والدقة العالية. ويبدو أن الولايات المتحدة تتجه نحو تبني هذه الإستراتيجية، خاصة مع الانتقادات القوية التي وجهها إيلون ماسك للصناعات العسكرية التقليدية، وخاصة نموذج طائرات "إف-35" ذات التكلفة العالية.
وقد شنّ ماسك، المعروف بدفاعه عن التكنولوجيا ذاتية التشغيل، حملة انتقادات واسعة على طائرة "إف-35"، التي تصنعها شركة "لوكهيد مارتن". وأثارت تصريحاته الساخرة نقاشًا محمومًا بين دوائر الصناعات الدفاعية، حيث شكك العملاء في جدوى الاعتماد على الطائرات المقاتلة التقليدية، خصوصًا مع النجاح الذي حققته الطائرات المسيّرة في الحرب الأوكرانية-الروسية.
التوجه نحو الأنظمة غير المأهولة
نقلت صحيفة "فايننشال تايمز " عن الرئيس التنفيذي لشركة "أوتيريون" الأميركية، لورينز ماينز، قوله: "بنفس الطريقة التي استُبدلت بها أجهزة الكمبيوتر المركزية بأجهزة الكمبيوتر الشخصية والهواتف الذكية، نتساءل: هل ستظل المنصات الكبيرة المأهولة - مثل الطائرات المقاتلة المأهولة - مناسبة بعد ظهور أنظمة غير مأهولة؟"
المخاوف من الطائرات المسيّرة
في المقابل، يوجّه المؤيدون للطائرات المقاتلة التقليدية انتقادات لأنظمة الطيران المتحكم فيها عن بُعد، مشيرين إلى افتقارها للمدى والقدرات الحربية التي تتمتع بها الطائرات المقاتلة. ويشيرون إلى أن الطائرات المسيّرة منخفضة التكلفة عُرضة للقرصنة الإلكترونية والتهديدات الأرضية-الجوية. أما الطائرات المسيّرة المتطورة، فهي أكثر تكلفة بكثير.
وفي هذا الصدد، يتساءل بايرون كالان، المدير الإداري لمجموعة الأبحاث "كابيتال ألفا بارتنرز": "إذا كانت الطائرات المسيّرة هي الحل الوحيد للمشاكل العسكرية، فلماذا تسعى أوكرانيا للحصول على طائرات مقاتلة مأهولة ومركبات مدرعة؟" وأشار إلى أن الصين لا تزال تستثمر في طائرات مقاتلة مأهولة من طراز "جي-20" وسفن بحرية مأهولة، مما يدل على استمرار الحاجة إلى القوة العسكرية التقليدية.
التوازن بين الطائرات المأهولة والمسيّرة
يرى مارك غونزينغر، مدير قسم المفاهيم المستقبلية في معهد ميتشيل لدراسات الفضاء، أن الطائرات المأهولة ستظل جزءًا من العمليات العسكرية المستقبلية. ويؤكد أن "الذكاء الاصطناعي عامل مساعد، لكنه لن يحل محل البشر في العمليات القتالية." ويضيف أن الطائرات المأهولة ستؤدي أدوارًا متعددة مثل القصف، والاستشعار، والإشراف على أرض المعركة، والهجمات الإلكترونية.