04-مارس-2020

رودريجو دي ماتوس/ البرتغال

في الحوار المُتخيّل الذي يرد في كتاب "مُحاورة فايدروس لأفلاطون" بين إله الحكمة تحوت وملكه تاموز، يقول الأوّل للأخير إنّه جاء له بما أسماه سرّ الحكمة والذاكرة، أي الكتابة التي رأى فيها وسيلةً لحفظ ذاكرة المصريين، بيد أنّ تاموز لم يوافقه الرأي، ورأى في هذا الاختراع دعوة صريحة للانصراف عن تمرين الذاكرة، والاعتماد على المكتوب فقط، أي قتل الذاكرة.

يُمكن الاستعانة بهذا الحوار المُتخيّل عند بداية كلّ حديث عن مستقبل الكتاب الورقيّ في ظلّ صعود الكتاب الإلكتروني، والتعامل معه باعتبار المسمار الأخير الذي يُدقّ في نعش الكتاب الورقيّ.

لا يبدو الأمر احتمالًا بقدر ما هو نيّة عند البعض، على الأقلّ عند بيل غيتس، مالك شركة مايكروسوفت، الذي أعلن أنّ عصر الكتاب الورقيّ انتهى، وأنّ الكتاب الإلكتروني سيحلّ مكانه. وعلى الرغم من المفارقة التي تجسّدت في نشر غيتس لنبوءته أو نيّته هذه في كتاب ورقيّ، إلّا أنّ الأمر فتح باب التساؤل فعليًا حول مستقبل الكتاب، لا سيما بعد استعداد البعض للدخول في هذه التجربة، أي تقديم بدائل عن الكتاب: قارئ kobo، قارئ kindle من أمازون، الكتاب الصوتي وغيره. بالإضافة إلى التساؤل حول مستقبل/ شكل القارئ نفسه، باعتبار أنّ قارئ اليوم ليس هو تمامًا قارئ الأمس. ولذلك، سوف يلجئ كاتب وأكاديمي مثل ريكاردو بيجليا لتأليف كتاب بعنوان "القارئ الأخير".

أعلن بيل غيتس، مالك شركة مايكروسوفت، أنّ عصر الكتاب الورقيّ انتهى وأنّ الكتاب الإلكتروني سيحلّ مكانه

اقرأ/ي أيضًا: لا تقرأ هذا الكتاب

قدّم الأرجنتيني الراحل في كتابه هذا تصوّره عن القارئ، أو بشكلٍ أدق، تصوّره للشكل الذي يجب أن يكون القارئ عليه، مُشيرًا إليه بـ "القارئ الأخير" الذي لا بدّ من أن يكون مُشابهًا لخورخي لويس بورخيس الذي يرد في الكتاب جالسًا القرفصاء في فناء المكتبة الوطنية، بعينين شبه مغمضتين بسبب ضعف البصر وشدّة التركيز، يبذل جهده لفكِ شفرات الحروف. إنّها الصورة المثالية لقارئ الكتاب الورقي، ذاك الذي يصفه الإيطاليّ إمبرتو إيكو بالقارئ النموذجيّ. ولكن، هل هي الصورة الوحيدة؟

ثمّة صور أخرى عديدة تُنافس هذه الصورة، من بينها صورة القارئ المتّصل أو قارئ الجهاز الذي ليس هناك حتّى الآن إجماع على وضع تعريفٍ ثابت له، ولكنّ ذلك لم يمنع نيكولا سنتولاريا من تعريفه بالقارئ الشره أو المذعور الذي يقيم علاقة هضمية مع المحتوى الذي يتلقّاه، الأمر الذي يبدو أقرب إلى عملية امتصاص سريع، أو استهلاك قهري وشره مرضي يجعل من المستهلك الثقافي كائنًا مذعورًا يُحاول جاهدًا مُجاراة التُخمة الثقافية التي يرى سنتولاريا أنّ شعارها بات الآن: الكثير من الثقافة، القليل من الجهد.

يتّفق الناقد الأمريكيّ هارولد بلوم، إلى حدٍّ ما، مع كلام سنتولاريا، بل إنّ الراحل كان سبّاقًا بالتحذير من دخول الانترنت ضمن عملية إنتاج الثقافة واستهلاكها، مُعتبرًا إيّاه خطر عظيم على العقل والقراءة الجادّة، عدا عن أنّه محيط رمادي ضخم تختلط فيه كلّ الأشياء ببعضها بشكلٍ يصعّب على القرّاء عملية تشكيل معايير للقراءة فيه، وكذا إيجاد معايير جمالية وعلمية كتلك الموجودة في الكتب الورقية. هكذا، لا يبدو مؤلّف "كيف نقرأ ولماذا" متحمّسًا لفكرة الكتاب الإلكترونيّ، شأنه شأن الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا الذي عبّر عن غضبه من نيّة بيل غيتس وضع حدٍّ للورق الذي عفا عليه الزمن، واستبداله بالأجهزة والشاشات. وإذا كان بلوم لا يتّفق مع فكرة القراءة الإلكترونية لأنّها ستقيّد السلطة النقدية الجادّة، فإنّ يوسا يرى أنّ دعوات غيتس عبارة عن إعلان وقح لنيّته وآخرين إرسال الكتّاب إلى خطّ البطالة.

لا يستبعد يوسا أن يستبدل الكتاب الإلكتروني الكتاب الورقيّ، ولكنّه يرى في المقابل أنّ هذه الكتب/ الأجهزة لن تكون قادرة على لعب دور الوسيط بين القارئ والأدب، بل إنّ القراءة نفسها ستتحوّل عندها إلى قراءة وظيفية غير أدبية تفتقر بشكلٍ كامل لشروط القراءة المعروفة: العزلة والروحانية. وهي شروط لا يُمكن أن تتوفّر بغير الكتاب الورقيّ. بهذا الشكل، لا يبدو صاحب "حفلة التيس" خائفًا على مستقبل الكتاب الورقيّ ولا مستقبل الكتّاب فقط، وإنّما على مستقبل الأدب الذي سيختفي في حال اختفاء الورق ويتعرّض لضربة مهوّلة لا يُمكن الشفاء منها بسهولة.

في المقابل، يبدو الكاتب والروائي الإيطاليّ إمبرتو إيكو أقلّ خوفًا على مستقبل الكتاب وأشدّ إيمانًا من سواه بقدرته على الاستمرار، مُراهنًا هنا على فكرة ثابتة عنده، وهي عدم وجود تكنولوجيا استطاعت اغتيال سابقتها بشكلٍ كامل. والكتاب أساسًا عند عالم السيمائيات شيء مثل المعلقة والمطرقة والعجلة والمقص، ما إن يخترعها الإنسان حتّى يكتشف أنّه ليس قادرًا على صناعة ما هو أفضل منها. عدا عن أنّ الكتاب نفسه يُبرهن على جدارته يومًا بعد يوم بشكلٍ لا يسمح للآخرين بصنع ما هو أفضل منه، للاستعمال نفسه. هنا، يؤكّد مؤلّف "بندول فوكو" أنّ لا مشكلة لديه مع القارئ الإلكتروني، ولكن هل تصلح لقراءة الأدب مثلًا؟ هل سيكون من الملائم مثلًا قراءة رواية "الحرب والسلم" عبر شاشة الحاسوب أو الشاشات اللوحية؟

يرتبط بقاء الكتاب عند إيكو بمدى ترابطه الجسدي مع القارئ، فالكتاب شيء متّصل بالذاكرة، وما نجده في الكتب الورقية حينما يتعلّق الأمر بالذاكرة تحديدًا، لا يمكن أن نجده في الأجهزة. مُدعِّمًا مقولته هذه بالقول إنّ الكتابة نفسها هي امتداد لليد، أي عملية بيولوجية على عكس الكتابة/ القراءة عبر الشاشات. والنتيجة أنّ الكتاب ووفقًا لرؤيته لن يموت.

رأى إيكو أن الكتاب شيء مثل المعلقة والمطرقة والعجلة والمقص، ما إن يخترعها الإنسان حتّى يكتشف أنّه ليس قادرًا على صناعة ما هو أفضل منها

قد لا يتّفق ألبرتو مانغويل مع إمبرتو إيكو تمامًا، ولكنّه لا يختلف معه حيال فكرة أنّ الكتاب هو من الأشياء القليلة الكاملة التي اخترعها الإنسان إلى جانب السكّين والعجلة مثلًا، بمعنى أنّ الكتاب لن يختفي وإنّما سيتعايش مع منصّات القراءة الجديدة، وهو بذلك يتشارك مع إيكو الفكرة نفسها، أي فكرة أنّ أي تقنية جديدة لا يُمكن أن تستبدل أخرى قديمة، أو أن تحلّ مكانها تمامًا. لذا، لا يستبعد الكاتب الأرجنتينيّ أن يقرأ نسخة إلكترونية من كتابٍ ما، ولكنّه في القابل يستبعد تمامًا أن يكون مُجبرًا على ذلك. يقول في أحد حواراته: "عندما اخترعنا الكتاب، اخترعنا شيئًا يمكننا أن نلغي من خلاله الزمان والمكان، وبذلك أصبحنا قادرين على التحاور مع شخص توفّي منذ ألف سنة في بلدٍ لم نزره في حياتنا، يمكننا التجاوب معه عن طريق الكتابة على الهوامش".

اقرأ/ي أيضًا: الوجه المظلم للاقتباسات

من هارولد بلوم وماريو بارغاس يوسا، وصولًا إلى إمبرتو إيكو وألبرتو مانغويل، هناك فكرة واحدة ثابتة، وهي أنّ القراءة ليست مجرّد نشاط ذهني فقط، وليست المساحة التي يمكن للإنسان/ القارئ من خلالها أن يقف وجهًا لوجه إزاء تواريخ أو أحداث أو ثقافات مختلفة؛ وإنّما نشاط إنسانيّ الهدف منه ضمان كينونة الإنسان/ القارئ، ومن ثمّ تعزيز إنسانيته نفسها. لذلك، سنجد مانغويل يقول: "ما دمنا نتمسك بالقليل من إنسانيتنا، سوف نحتفظ بالكتب".

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف كانت القراءة الصامتة طريقًا إلى الحياة الفردية؟

متاهات الكتب وحياة القراءة