17-أبريل-2018

الكتابة على السيارات في مصر، وسيلة للبوح والإفصاح (ألترا صوت)

#يقول الحكيم المصري، إيبور: "ليتني كنتُ رفعت صوتي آنذاك، حتى أُنقذَ نفسي من الألم الذي أنا فيه الآن".

سائقو السيارات في مصر، خاصة سيارات الأجرة والنقل، كباقي الفئات المكافحة في المجتمع المصري، والمجتمعات العربية عمومًا، يخرجون من بيوتهم كل يوم سعيًا وراء الرزق، أو كما يقول البعض: "على فيض الكريم".

كتابة الأمثلة الشعبية أو وضع رموز دينية على السيارات في مصر، هي طريقة لمواجهة المجهول في رحلة البحث عن الرزق

وكونهم في بلد يعيش ظروفًا اقتصادية شديد الصعوبة، فالمكسب، أو بالأحرى قوت اليوم، يبقى أمرًا مجهولًا تقرره الطرقات وأهلها والقائمون عليها من عساكر وضباط المرور، متقلبين في هذا المجهول بين أمزجة العساكر والزبائن، خاصة سائقو سيارات الأجرة.

اقرأ/ي أيضًا: الأمثال الشعبية في مصر.. بقية من عصر الفراعنة

إعلامٌ شعبي

في مواجهة هذا الجمهور الدائم، يلجأ هؤلاء إلى إعلامهم الخاص: الكتابة على هياكل سياراتهم. إذ يرى سيد عويس، الملقب بعميد علماء الاجتماع في الوطن العربي (1903- 1988)، أنّ الكتابة على هياكل السيارات من بين أساليب مواجهة المجهول، فالأمر لا يقتصر على كتابة العبارات من أمثلة وحكم شعبية، وإنما يتعداه إلى عبارات دينية ورموزٍ لها معنى في السياق الديني الشعبي، مثل الكف، وله رمزية شعبية لمنع الحسد، أو آيات قرآنية خاصة بالرزق أو الحماية. أو هي أيضًا "مقاومة بالحيلة" وفق تعبير السوسيولوجي جميس سكوت. 

وهناك أيضًا، وإن كان ذلك في فترات سابقة، عادة وضع وتعليق الأشياء ذات الدلالات الرمزية، مثل المصحف أو الصليب، أو المسبحة، أو الأحجبة والتمائم أو القواقع البحرية، إذ ثمة اعتقاد شعبي كان سائدًا، بأن القواقع البحرية تحفظ من أعين الحُسّاد. 

وبحسب عويس، في كتابه "هتاف الصامتين"، فإن كل هذه الأشياء وغيرها، تمثل عناصر مناخٍ اجتماعي ثقافي داخلي بين هؤلاء السائقين الذي يحملون عناصر ثقافية اجتماعية "غير مادية"، مُغلّفة بالمعتقد الشعبي.

لم يكتفِ هؤلاء بأجهزة التنشئة الاجتماعية التقليدية، كالمدرسة والمؤسسات الدينية، وإنما كانوا يميلون لأقرانهم ممن يتحدثون لغتهم في الشوارع والحارات. هؤلاء، في هذه المناطق، يمثلون مجتمعًا ترتفع فيه نسبة الأمية، التي تبلغ في مجملها 20%، بحسب إحصائية أعدها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر في 2016.

وذهب هؤلاء إلى الحرفيين المتخصصين بالكتابة وطباعة الرموز على السيارات، ويدفعون لهم المال مقابل طباعة كتابة عبارة ما أو مثل ما، أو طباعة رمزٍ ما. بالأحرى، إنهم يدفعون المال لوضع ما يرغبون في البوح والإعلامِ به. يكون الأمر بمثابة "هتافٍ للصامتين"، ووسيلة إعلام لهؤلاء البسطاء، يخبرون عبرها ما يختلج في صدورهم، وما يفكرون فيه، وما يرون أنه يعبر عنهم وعمّا يمثلونه طبقيًا وثقافيًا.

فعل البوح

قد يختفي البطل في محتوى ما يكتب على السيارات، وقد تختفي البطولة كذلك، ويظل القانون الأخلاقي، والدستور الممثل في المقولة الشعبية. وأحيانًا يكون المكتوب أسماء الأبناء، الذين هم بحق يُمثلون لهؤلاء "رأس المال"، والدافع لأن يتركوا أنفسهم تحت رحمة الشارع لطلب رزقهم، أي رزق الأبناء.

هناك أيضًا عبارات الأغاني، أو العبارات الساخرة التي تم تحريفها لتناسب فكرة في رأس كاتبها، وكذا النصائح، وبعضها خفيف الظل، والكثير من كلمات الأغاني الشعبية.

الكتابة على السيارات هي أيضًا ممارسة للبوح. هي رغبة في الإفصاح للتخفف من ثقل الحياة وواقعها

الكتابة هنا هي فعل بوحٍ صريح، أو مستتر. هي رغبة في الإفصاح للتخفف من ثقل الحياة وواقعها، لذا فإنها لا تقتصر على سيارات النقل والأجرة، بل تجدها كذلك على عربات الفول الأكثر انتشارًا، بما في ذلك في الأماكن الأكثر غناءً. وستجدها على مداخل البيوت والمنازل، وفي المقاهي. وقد تجدها على جدرانٍ عامة، وحتى على الأشجار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إبداع الأميين.. كيف أنعش البسطاء الثقافة المصرية؟

من الزمن والفقر وهموم الناس.. "العرضحالجية" اشتكوا