24-يناير-2020

محمد العجاتي/ مصر

 

عندما نعرف بعض المعلومات حول الكتابة العربية في مراحل نشأتها الأولى نتوصل إلى تصديق الرأي القائل إن تأليف الكتب لعب دورًا في الثقافة العربية الإسلامية لم يلعبه في أية ثقافة أخرى. في التراث نقف على أن المزرباني، على سبيل المثال، كتب 37580 صفحة، حسب ابن النديم. وكتب ياقوت الحموي 33180 صفحة لم يتبقّ منها سوى مؤلف واحد، فقد كان يكتب وإلى جانبه دواة الحبر وقدح الخمر. وكتب ابن حزم الأندلسي 400 مجلد بـ 80000 صفحة، ولم يفقه -حسب ياقوت الحموي- سوى الطبري الذي قيل إن شروحه على القرآن بلغت 30000 صفحة، اختُصرت إلى 3000، وقد كان يكتب 40 صفحة يوميًا لمدة 40 عامًا. وكتب جلال الدين السيوطي، حسب ابن إياس -المؤرخ المصري- 600 كتابًا. وهكذا.

وردت معلومة مدهشة في كتاب للمستشرق الدنماركي يوهنس بيدرسون تقول إن الكتاب العربي كان يمر بمراحل عدة قبل أن يُنشر ويصير في متناول القراء، منها، أن الكتاب لكي يُنشر، يُقرأ أولًا للجمهور من قبل مؤلفه، ثم يُقرأ علنًا ثلاث مرات أخرى بصيغ مختلفة من قبل نُسّاخ بحصور المؤلف، وفي هذه الأثناء تجري عليه تعديلات وإضافات وذلك عبر إملائها على المستملي الذي يعيد قراءة الصيغة الجديدة على المؤلف، بعد ذلك يبلغ الكتاب شكله الأخير بقراءته عاليًا على المؤلف بحضور الناس. وهكذا..

ورد في "صبح الأعشى" أن سعيد بن العاص قال: "من لم يكتب فيمنه يسرى"

وقد يكون ذلك عائدًا إلى أن النص القرآني أعلى من شأن الكتابة، فقد حثّ عليها في أولى آياته: "اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم"، وكذلك فقد أقسم بها: "ن والقلم وما يسطرون". كذلك حثّ النبي على ضرورة تعلّم الكتابة، فجعل فداء أسرى قريش في موقعة "بدر" ممن تعلموا الكتابة أن يعلموها إلى عشرة من صبيان المدينة، وحث كذلك على تعلّم لغات الآخرين، فقال لزيد بن ثابت: "تعلّم لغة اليهود فإني ما آمنهم على كتابي"... وثمة الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تشير صراحة وضمنًا، إلى أهمية الكتابة وضرورة البدء بها. وبالفعل، بعد تدوين القرآن انهالت الكتابة لتبلغ مستويات عليا. الدارسون يستشهدون بعبد الحميد الكاتب وابن المقفع والجاحظ وغيرهم... ويمكن الاستشهاد بابن عربي والنفري وإبي حيان التوحيدي وغيرهم..

اقرأ/ي أيضًا: ركن الورّاقين: الجاحظ مؤسّس البيان العربي

نعلم ربما أن الأمم في طور نشوئها وطموحها تسهم في تفجر العقل الإبداعي لأفرادها على مستويات الإبداع كافة: الأدبية والعلمية والفلسفية والتاريخية، وهذا ما أدى بالفعل إلى نشوء  الثقافة العربية الإسلامية، مع هذا وإضافة عليه فإن الجذر الديني كان حاسمًا. فتكريس المرء حياته للتأليف والكتابة، كما يرى هنرسون، "يمنحه كلًا من إشباع الرغبة وتقوى الله حتى إذا ما جاء يوم القيامة احتسب الأجر لمن قام بالعمل"، هذا الانخراط الكلي بالكتابة لم يجعل المؤلفين يعيشون حرمانًا ماديًا فحسب، بل جعل آخرين ميسورين يمدون لهم يد العون أيضًا. في هذا السياق الثقافي والكتابي المتعاظم جعلت الدولة الفاطمية، على سبيل المثال، وخلال مواكب الاحتفالات برأس السنة مظلة  الخليفة تُصدَّر بدواة حبر ضخمة كإشارة إلى أهل القلم، إلى جانب السيف كإشارة إلى أهل السيف وحملته.

في الكراسات القضائية كان الاحتيال في التجارة يتم أحيانًا عبر تبقيع ملابس الرقيق بالحبر كإشارة إلى أنه يكتب، فيزيد سعره وترتفع مكانته.

ولكي تزداد أهمية الكتابة ويتعلمها المزيد من الناس ويتجهوا إليها، ويكتب الكتّاب بأقصى طاقاتهم، قالت العرب أقوالًا في الكتابة والكتّاب قد تنطوي على مبالغات كثيرة. فقد ورد في "صبح الأعشى" أن سعيد بن العاص قال: "من لم يكتب فيمنه يسرى". ومعن بن زائدة قال: "إن لم تكتب اليد فهي رجل". وقيل: "الكتّاب ملوك وسائر الناس سوقة"! وهذا منسوب للزبير بن بكار. وقد رأى ابن المقفع أن "الناس أحوج إلى الكتّاب من الكتّاب إلى الملوك".. وهكذا.

بلغت الكتابة في المرحلة العباسية شأنًا لم تبلغه الثقافة العربية الإسلامية في مراحلها كافة

وقد بلغت الكتابة في المرحلة العباسية شأنًا لم تبلغه الثقافة العربية الإسلامية في مراحلها كافة حتى يوم الناس هذا. فاستوعبت ثقافات الآخرين وأدمجتها في ثقافتها كثقافات فارس واليونان والهند... وأسّس ابن المقفع لـ"الأدب الكبير" و"الأدب الصغير"، وأسّس الجاحظ للبيان العربي وكتب ما ليس للعرب عهدًا به من قبل. وأسّس الصوفيون للكتابة التي تُكتب "بالدم" حسب ما يريد الحلاج.

اقرأ/ي أيضًا: ركن الورّاقين: أقوال في الكتب والكتابة

كان ذلك في عهد نهوض وطموح وتطلع كبير، وبالمقارنة مع ما وصلت إليه حال الثقافة العربية الآن، نتيجة عوامل متعددة أهمها أن العرب حُكموا بطريقة استبدادية، نصل إلى أن الثقافة لكي تزدهر يجب إحراز عملية انقلاب شاملة في البنى السياسية التي تقود بدورها إلى انقلاب في البنى الاجتماعية، ليتشكل نظام عام System تعمل فيه السياسة والثقافة والاقتصاد وغير ذلك معًا، إذ دون هذا الـ System فإن أي حقل من تلك الحقول السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها لن يعمل معزولًا عن الحقول الأخرى.

في تلك العهود بدا شعار الناس وكأنه: الكتابة حتى الموت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن الحب والاشتهاء في تراث العرب

ركن الورّاقين: ابن منظور وموسوعة اللغة العربية