15-أكتوبر-2015

إيمره أركان/ تركيا

يمكن القول إن الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى قد حققت قفزة كبيرة في مجال إدراكنا للعالم من حولنا. لا يتوقف الأمر في حدود إسهام الفيسبوك في الثورات الأخيرة التي عصفت ولا تزال في البلدان العربية، أو قدرتها على التقريب بين الناس البعيدين والمنعزلين عن بعضهم، أو في زيادة نسبة القراءة بين الناس، بغض النظر عن قيمة الكثير من هذه القراءات؛ ولكن أيضًا في صياغة نوع من علاقات وصداقات افتراضية وتبادل خبرات بين أناس من بيئات وثقافات مختلفة، وما قد يضيفه ذلك إلى إدراكنا لذواتنا وللعالم المحيط بنا.

أصدقاء الفيسبوك، مهما تنوعوا، فإن غالبيتهم من محيط الكاتب وتشغلهم القضايا نفسها، والجميع سيكتب عن الموضوع نفسه

يمكن الإقرار بهذه التأثيرات وغيرها أيضًا، لكننا نتردد قليلًا حين نتحدث عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الفيسبوك، على الكتابة الأدبية. يعود ذلك إلى أمرين أساسيين في ما خصّ الفيسبوك تحديدًا، وهما أن الأخير لم يُكرّس بعد كحقل كتابة، فتقديرنا للكتابة الفيسبوكية ما زال متدنيًا، وأيضًا لو أقرّينا بتأثيره على بعض الكتابات الحالية، التي لا تزال غير قادرة على فرض نفسها، أو حتى بعض النصوص التي تشير جهارًا إلى محاكاة "الأسلوب الفيسبوكي"؛ فإننا لا نزال غير قادرين على تقدير عمر الفيسبوك. هل سيستمر طويلًا أم أن وسائط أخرى ستحل محله وترميه في غياهب النسيان؟ هل يمكن حينها الاعتراف بنوع كتابي جديد لم يتعد عمره بضعة سنين؟ وهل سيتمكن هذا النوع من الاستمرار إذا اختفى مؤثره الرئيسي أي الفيسبوك؟ لو فشل الفيسبوك في الاستمرار، فإن الظاهرة العامة الموجودة حاليًا والمرتبطة به قد لا تتعدى التأثير العام الذي فرضته الشبكة العنكبوتية إجمالًا على الكتابة الأدبية.

مع ذلك، فإن ثمة ماء تتحرك الآن في المستنقع الفيسبوكي. ثمة ما يمكن تسميته بالشذرات التي نقرؤها على الفيسبوك والتويتر الصارم في عدد كلماته. ويوجد أيضًا ما يشبه اليوميات التي تغرق في تفاصيل الحياة اليومية المملة، وأيضاً النصوص التجريبية (قصائد، قصص... إلخ) التي يضعها أصحابها على صفحتهم لتكون منطلقًا لاحقًا في تقييمها وتعديلها وتطويرها كي تصبح صالحة للنشر.

موضوع الشذرات يسبق انتشار الإنترنت تمامًا، فهي نزعة باتت عند معظم الكتاب سمح بها انتشار قصيدة النثر، وأيضًا المتعة التي وجدها القرّاء/ الكتّاب في شذرات نيتشه ولاحقًا إميل سيوران وغيرهم. طبعًا، الاستسهال في كتابة الشذرات صار الآن على قدم وساق. ومن سياقها الشعري والفلسفي عند نيتشه وسيوران، تحولت عند أصحابها الجدد إلى تعليقات على كل حدث أو موقف، سواء كان الموضوع شخصيًا أو خاصًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا. ومن هذه الشذرات أو التعليقات على الفيسبوك قد تنطلق شرارة مقال أو قصيدة أو دراسة... أو حتى كتاب.

هل ثمة نجاح في كل ما سبق؟ ربما، فهذه الظاهرة كأي ظاهرة أخرى تحتمل وجهي النجاح والفشل. لكننا قد نضطر في هذه الحالة إلى التغاضي عن مسألة التعبئة التي ينجح الفيسبوك في تحقيقها، ومدى تأثيرها على الكتاب ونظرتهم الفردية. وهذا ليس اتهامًا بل إقرارًا بوجود الأمر، إن وُجد. إذ أن الكاتب يقرأ شذرات غيره وتشحنه الأخبار الواردة على الفيسبوك وانطلاقًا من ذلك يكتب شذرته. في النهاية، أصدقاء الفيسبوك، مهما تنوعوا، فإن غالبيتهم من محيط الكاتب وتشغلهم القضايا نفسها، والجميع سيكتب عن الموضوع نفسه.

الأمر ذاته ينطبق على اليوميات. إذ لا يمكن إنكار بروز ظاهرة اليوميات مجددًا ووضوح تأثير الفيسبوك في انتعاشها. اليوميات الفيسبوكية (ونعني هنا اليوميات التي تأخذ من الفيسبوك منطلقًا لها) تغوص كثيرًا في التفاصيل الحياتية اليومية، وهذا قد يشبه في جانب منه العديد من اليوميات القديمة التي كانت تذكر حتى حالة الطقس. لكن ثمة اختلاف جوهري بين اليوميات العادية واليوميات الفيسبوكية، فالأخيرة تسعى إلى الإشهار المباشر والحذلقة اللغوية والنكتة العفوية الخفيفة، وهذه سمات عامة للكتابة الفيسبوكية.

لا نعرف أثر وسائل التواصل على الكتابة الأدبية، أو أنها أدوات لتدجينها والسيطرة على ما تبقى من فردانيتها!

اليوميات الفيسبوكية مختلفة عن اليوميات العادية التي نعرفها. إذ أن صاحب اليوميات، عادة، لا يكون متيقنًا من نشر عمله، أما على الفيسبوك فإن النشر هو المحطة الأولى لليوميات حتى لو كانت بين الأصدقاء فقط. قد تسعى إلى التوثيق والحميمية ولكنها أيضاً تنشد الشهرة.

وهذا ينقلنا إلى ظاهرة النصوص التجريبية على الفيسبوك. العمل الأدبي، في هذا المسار، يسعى إلى الموافقة العامة حتى قبل اكتماله. الكاتب حين يضع نصوصه على صفحته فإنه يبحث عن الإجماع. هذا الأمر قد يُفقده المصداقية، من دون أن نلغي الجانب الآخر الذي يدفعه إلى نشر نصوصه التي لم تلق استحسانًا معاندًا كل الآراء المخالفة له. بكل بساطة، يمكن القول إن الفيسبوك يريد التحكم بالنصوص وهي ما تزال في مرحلتها الجنينية.

قد نكون هنا أمام تغيير أو انتعاش في بعض الأنواع الأدبية، ولكننا لا نزال غير قادرين على تقدير مداه أو مدى مصداقيته. لا نعرف بعد إن كان لوسائل التواصل الاجتماعي تأثيرًا حسنًا على الكتابة الأدبية أم أنها بكل بساطة مجرد أدوات جديدة لتدجينها والسيطرة على ما تبقى من فردانيتها.

اقرأ/ي أيضًا:

الشعراء الانقلابيون

القارئ في اللانهاية