28-مارس-2022
duncan-roberts

"أدرك أنه من المستحيل اقتحام عُزلة شخص آخر. إذا كان صحيحًا أننا نستطيع يومًا أن نعرف إنسانًا آخر، ولو بمقدار ضئيل، فهذا فقط بمقدار استعداده لأن يُعرف" بول أوستر. وبالنسبة للكاتب فإنه في حالة من الانزياح عن الواقع بينما هو مستغرق في الكتابة أريد أن أسميها هنا الفصام، ويكون ذلك عندما يدخل من المجتمع إلى ذاته المتوترة على الدوام.

يتمنى الكاتب في حقيقة الأمر أن يكون كائنًا اجتماعيًا عاديًا، يجامل بطريقة سلسلة، يتحدث دون أن يشرد في تفاصيل المشاهد التي صنعتها كلماته، من الأصوات التي سيترك القليل منها لقلمه، التفاصيل الكثيرة المتعبة من المشاعر وردات الفعل، والتأويلات، وصياغة الجملة المناسبة دائمًا لقول: أعتذر ولكن عليّ الذهاب للكتابة، دون انفعال زائد، ليفهمها الطرف الآخر على أنه يقول أريد أن أذهب إلى الحمام مثلًا أو أنا جائع أعتذر منك سأحضّر الطعام، بسهولة ودون خوف من أن تذهب منه الكلمات وهو متجه لغرفة الكتابة، فلو كان كذلك لكانت حياته أسهل وأقل قلقًا. إذا وضعنا احتمال بأنّ الكاتب ليس مريضًا نفسيًا، لكنه ممتلئ بالأصوات والمشاهد والكلمات العابرة، إذًا فلماذا هو دائم الخوف من الخيبات هل لأنه ممتلئ بها أيضًا؟ مع أنه في الواقع ليس مثاليًا، إلا أنه يلتزم أن يكون كذلك، ليوجه رسائله للمجتمع بشكل غير مشوه، لأن الأخير ينتظر من أي أحد أن يتحدث عن الوجه الجميل السليم لأنفسنا بطبيعتنا الفطرية، يريد من أي أحد أن ينبهه للمخاطر والهواجس التي تنتابهه، هذه هي مهمة الكاتب، ولكن علينا ألا نستغرب من طبيعته الفضولية المتوترة دائمًا والحالمة في كثير من الأحيان، فقد يجلس بجانبه مثلًا الشخص الذي للتو كتب عنه بمشاعر فائضة وبكى على حاله أحيانًا وتخيل تفاصيل حياته كاملة أو قد يكون الحبيب ويحدث أن يلمس معطفه الذي علقه على الكرسيّ فيتوتر من اقترابه ويبعده أو يبتعد عنه دون أن يقول له حرفًا مما كتبه عنه، فيظهر له على أنه عدائي وعديم المشاعر، قالت شارلوت برونتي عن أختها إميلي أنها نادرًا ما عبرت عتبة المنزل على الرغم من أنها كانت تحمل الخير للآخرين، إلا أنها لم تكن تختلط معهم. ثم لماذا يحمّل نفسه دائمًا عبء الآخر، منذ الأزل يحمل الآخر على عاتقه، وإنه دائم التعب، دائم التفكير، ومأخوذًا في كثير من الأحيان بمشاهد من فيلم ما وكيف إذا كان ذلك الفيلم قد أتى بأحداث وتفاصيل قد حدث وكتبها من قبل؟ تكتب أرونداتي روي: هذا النقص الحاد في اللحظات الحقيقية الصادقة، هو ما يجعلنا اليوم أكثر قابلية للانهيار، أشخاصًا، وبلدانًا، وثقافات.

يتمنى الكاتب في حقيقة الأمر أن يكون كائنًا اجتماعيًا عاديًا، يجامل بطريقة سلسلة، يتحدث دون أن يشرد في تفاصيل المشاهد التي صنعتها كلماته

حتى إنه يريد أن يبرز مشاعره بشكل لافت وغير مسبوق فيدخل في علاقات آنية فقط بهدف الكتابة فهو لا يريد أن يحب مثلًا مثل أي شخص آخر. وفي أغلب الأحيان لا يريد أن يكون المحرك بل المدمر أيضًا لتحقيق نزعاته وجنونه وإبداعه المؤثر، فبالنسبة إلى إرنستو ساباتو مثلًا ليس الحب سوى شخص يتألم وآخر يضيق ذرعًا. حتى الحزن حتى السعادة، أي أمر يستجد سيضيفه إلى مجموع خيباته في الغالب لأنّ دافع الكتابة الأقوى هو الإنكار، الانزعاج، إبراز المثل العليا، الحزن، لذلك يلجأ بعض الكتاب لكتابة الفانتازيا، يقول سيغموند فرويد: "التعساء المستاؤون هم القوة المحركة للفانتازيا، وكل خيال هو تحقيق لأمنية معينة، وتصويب لحقيقة غير مرضية". يقول إرنستو ساباتو: "عن أي سعادة تحدثني، كأنما أنا سعيد في هذه الحياة العاهرة".  لذلك أيضًا نجد الكاتب إذا لم يستطع الكتابة تزداد عصبيته، يتعامل مع الآخرين بلا تركيز، فيقول للشخص الآخر مثلًا: "هل تدخن؟" بدلًا من: "الجو هادئ وجميل اليوم"، فالهدف أن يمضي الوقت فحسب هاربًا من فقده جوهره، وما إن تمكن من التعبير عما في داخله كما يريد تمامًا نراه مرتاحًا سعيدًا ومختلفًا ويزداد أحيانًا غروره، فمن ضعف وحزن إلى قوة وغرور، فيصيب الآخر (غير الكاتب) حالة من الحذر والاستغراب، لأنه قد رأى أنه بسبب عجز كبير (بالنسبة له) سيتغير وسيبتعد.

العربي-التلفزيون

كان اعتقادنا وقد قرأنا الكتب العظيمة بأن الكاتب الصادق يكون خجولًا وانطوائيًا، لأنه قد كتب الآخر فعلًا والمجتمع فإلى ماذا سينحاز بعد ذلك؟ لكن لماذا الآن نجد الكاتب يعتلي (كل) المنابر بغرور، يناقش كتبه أيضًا، يطل علينا من كل الشاشات حتى ونحن في نزهة، هل كانت أجاثا كريستي أو إميلي برونتي أو قسطنطين كفافيس مثلًا ليفعلوا ذلك أم أنهم سيكتفون بالكتابة فقط؟ ماذا تركنا للقارئ إذًا إذا كنا سنتحدث مطولًا عن كتبنا ونفسرها لهم بأنفسنا؟! تقول أغاثا كريستي رغم النجاح الذي حققته: "ما زال لدي الشعور بأنني أتظاهر بأنني كاتبة"، وحين ذهبت إلى قاعة الاحتفال للاحتفاء بمسرحيتها "مصيدة الفئران" فوجئت بأن حارس باب القاعة لا يعرفها، ويرفض السماح لها بالدخول، وكانت ردة فعلها وهي ذات السبعة وستين عامًا أن استدارت للخلف بخجل واتجهت نحو بهو الفندق لتجلس وحيدة. وقد استعرض موران في كتابه "البنفسج المنكمش" موضوع الخجل عند الكتاب والفنانين وهناك مقالات أخرى عن فوائد الخجل التي قد لا نعرفها، وأنا لست بصدد الحديث عن ذلك الآن.

ولكن السؤال الأهم لماذا الآن من يكتب مثلًا (بطني يؤلمني) يصنف نفسه على أنه كاتب وتتبعه كثير من الإعجابات حتى من ذوي القدرة الإبداعية الكبيرة؟ هل خلقت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي هذا الفصام لدى الكتّابَ الأفذاذ فصاروا يشكّون في إبداعهم وينطوون بذلك على أنفسهم بداعي الخجل "غير المبرر" أبدًا اليوم؟