14-يناير-2021

لوحة لـ فرانك أورباخ/ بريطانيا

يكتب في رأس الصفحة غير المسطرة بخط مائل "سيدي"، ثم يشطب الكلمة مفضلًا أن يستخدم لفظًا دالًا على النديّة. يكتب "فضيلة"، يشطبه مرة أخرى ويستقر راضيًا على "إلى من يهمه الأمر".

الأمر جلل والمهمة تليق بالأنبياء ولا يجوز له أن لا يبذل في سبيلها كل خدعهِ اللغوية وأدوات تعبيره التي لولاها ما قصده الناس واضعين أيديهم على رأسه يحلّفونه بالأولياء والمحبين أن يرفع أمرهم إلى سلطات البلدية لترفع عنهم العذاب الذي لحق بهم من اجتياح جماعات الخواجات لقريتهم الوادعة.

والحق أنه، بوصفه كاتب القرية ووجه فكرها، مضطر لحمل رسالة الناس وإن خالفهم فيما يعتقدون. وقد راهن الناس عليه في إظهار ذيول الخواجات وقرونهم التي احتجبت تحت لكنتهم المهذبة وابتساماتهم الرائقة، بعدما اجتاحت بعثات سينمائية أجنبية وعربية "متأجنبة" بحسب ما أملوا عليه، رغم اعتراضه على انعدام أصل المصطلح في اللغة، قرية تل الزيت الواقعة في "آخر ما عمّر الله" بزعمهم أيضًا، وأقاموا مواقع تصويرهم في أطراف القرية أحيانًا وفي بيوت "قليلي الدين" الذين قبضوا رزمًا من المال مقابل أن يباتوا شهرًا أو شهرين في بيت قريبٍ أو صهرٍ لحين انتهاء التصوير.

طال زمن مكوث فرق التصوير في القرية، وكلما حلّت واحدة تبعتها أختها، حتى ضاق الناس وتبرّم شيوخ القرية وحكماؤها، فهرعوا إلى كاتبهم، وراهنوا عليه، وجمعوا له حلّيهم ومتاعهم ليكون صوتهم لدى السلطة العليا علّ زمانهم يصفو كما كان.

صاحت امرأة من وراء الأكتاف "اكتب أستاز" مشددة على الحرف الأخير، "هتكوا عرض بناتنا"، وقد كان شاع في القرية حب ابنتها لممثل أحمر البشرة مشدود القوام، "أين كلمة عرض أستاز؟" أشار إلى كلمة اعتباطية، فدعت له المرأة وتركت سلة البيض قرب قدميه وغادرت.

"قل لهم أضلوا شبابنا"، صاح المختار بقرب أذنه حتى أورثه طنينًا حادًا في أذنه اليسرى. وقد كان عدد من شبان القرية قد تركوا الحقول والمزارع ورافقوا الفرق لمعاهد التمثيل ليعملوا معهم ككومبارس أو مرافقين شخصيين. اتكأ المختار بذقنه على رأس عصاه وأشار بأهدابه الطويلة لغلامه بإدخال أرغفة الخبز يتصاعد منها بخار المواقد.

"ليلنا صار نهارًا، نقوم على زعيقهم، وننام على تقارع سيوفهم". "نساؤنا تمردن علينا ونبذن عيش آبائنا ورددن في مضاجعنا ما لم ينزل به الله من سلطان". "كحولهم أزكمت أنوفنا والتقط أطفالنا أعقاب سجائرهم".

تعالى زعيق أهل القرية وتوالت شكاواهم وعطاياهم. وأمضى الكاتب ليله يكتب شيئًا يليق بكاتب جهبذ محنك، بكى حينًا وضحك حينًا ودخن سجائره وشرب كحوله وكوّر أوراقه ورماها، فلم ترتطم بحطب المدفأة ولا بسلال بيض ولا بأرغفة ساخنة وإنما بجدران مشققة وعارية.

وفي ظهيرة اليوم التالي خرج الكاتب من بيته أشعث الشعر منتفخ الجفون، فتحاشاه الناس ولم يردوا تحيته. أغلقت النسوة نوافذهن دونه، وهرب منه الصبية، بينما تبعه أشقاهم بالشوك والحصى. وصل موقع التصوير فعاجله المخرج بالتذمر من تأخره المتكرر، وبعد استرضائه وتطييب خاطره، شرع الكاتب بأداء الدور الخاطف الذي أوكِل إليه، تاليًا بعض أشعاره ومواقفه الفلسفية، قبل أن يوقفه المخرج بصرخة عظيمة "يا أستاز" مشددًا على الحرف الأخير "أَفْصِحْ أرجوك، نريد أن يشعر الجمهور ببساطة القرية وأصالة أهلها من كبيرهم حتى غفيرهم مرورًا بالموقر كاتبهم العظيم".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ملامح المرة الأولى

هنا.. ثلاث مرّات