29-نوفمبر-2017

ربما بعد عقود سيسمى العصر الذي تعيشه مصر الآن بـ"النكسة الكبرى" (ماركو لونجاري/ أ.ف.ب)

لم تعد تحتمل القلوب ما يحصل في مصر. الكابوس يطول وحلقاته تزداد دموية وبؤسًا، والمجزرة الأخيرة (مجزرة مسجد الروضة) التي راح ضحيتها أكثر من 300 بريء في أعنف حادثة في تاريخ مصر الحديثة، هي آخر عناوين مسلسل لم ينته بعد، ويبدو أنّه لا يزال مستمرّا، والخشية الدائمة أنّ القادم أكثر شناعة. ويظلّ السّؤال يؤرقنا دائمًا، أهو اختبار ربّاني ومحنة قبل الفرج المنتظر، أم سنّة التّاريخ في انتظار المارد الذي سيخرج من قمقمه بعد سنة أو عشرة وربّما قرن؟ المشهد قاسٍ جدّا.

ربما بعد عقود سيسمى العصر الذي تعيشه مصر الآن بالنكسة الكُبرى، أو ربما سيسمى بسنوات مصر السوداء

حينما كنّا صغارًا، كنّا نتخيّل حجم النّكسة التي عمّت بعد 1967، الكابوس المباغت الذي قتل الحلم الجميل، والصفعة المفاجأة التي هزّت جسدًا اغترّ بنفسه، نتخيّل الوجوه المكفهرّة في الشوارع، وأولئك الذي فكّروا في الانتحار ومنهم من انتحر فعلًا، غير أنّ واقع اليوم، بعد نصف قرن، هو أكثر سوداوية وبؤسا من النّكسة.

اقرأ/ي أيضًا: النكسة.. هزيمتنا الممتدة فينا

ربّما بعد عقود، سُيسمّى هذا عصر النّكسة الكبرى لتسمّى 67 بالنكسة الصّغرى، أو ربّما ستسمّى هذه السنوات بسنوات مصر السّوداء، كما سميّت أشنع مراحل انتهاك حقوق الإنسان في تونس والمغرب، على التّوالي، بسنوات الجمر وسنوات الرّصاص. بيد أنّ ما يحصل في القطعة من قلوبنا، في مصر، أوجع من الجمر، وأشنع من الرّصاص.

لا تتعلّق الصّورة فقط بالانتهاكات غير المسبوقة لحقوق الإنسان وكبت الحريّات، وبالمعتقلات المزدحمة بأحرار مصر الذين في عمر الزّهور، وبحجم ضحايا الإرهاب لنظام يتباهى ببزّته العسكرية لا يقدر أن يحمي الأبرياء. لا تتعلّق الصّورة بهذه المشاهد السوداء فقط، بل كذلك بنظام لم يكفه استبداده وفساده، ليقترف جرائم لم يسبقه إليها أي نظام مصري سابق، أو أي نظام عربي، هي جرائم لا غرو أنّها ترقى لدرجة الخيانة العظمى. نظام يبيع أرض هنا وينخرط في حملة لتهجير سكانه من أرض هناك، إنه نظام يشتري بقاءه ببيع أرض الأجداد الذين أخبرونا أن الأرض عرض.

لا يزال جرح تيران وصنافير عميقًا، وسيظلّ شعور الإهانة والقهر كالجمر على قلوبنا. وسنبقى نردّد السؤال الأبله: كيف لنظام عسكري تقوم عقيدته على حماية الأرض أن يبيع ما هو مؤمّن عليه؟

بلغ نظام السّيسي درجات لا مثيل لها في إذلال مصر وشعبها. ويبدو أنّه لا زال مستمرّا في تفريطه في الأرض، إذ بدأت رائحة "صفقة القرن" تفوح بالدعوات المتتالية لتهجير سكّان سيناء بتعلّة مكافحة الإرهاب، في ظلّ خشية بدء خطة توطين الفلسطينيين فيها في صفقة لتصفية القضية الفلسطينية، التي يشتري بموجبها ولي العهد السعودي الأمير الطائش محمد بن سلمان ثمن دعم الأمريكان والصهاينة له للسيطرة على السلطة في المملكة، وما نظام السيسي في هذه الخطة إلا وكيل هوايته أن يشاغب هذا وذاك، ليقايض ويبتزّ ما أمكن له.

وما لا يقلّ خطورة أن نظام السّيسي يسير في الدّاخل نحو تكريس تجزئة مصر بثنائية متباعدة، طبقة الدولتية والبرجوازية المتحالفة معها والتي تزداد سلطة وثراء، وطبقة المفقّرين والمسحولين التي تزداد فقرًا وبؤسًا، وفي الأثناء تتزايد المظاهر الكاشفة عن كلّ طبقة أكثر فأكثر.

يكرس نظام السيسي لتجزئة مصر بين طبقة الدولتية ومعها أصحاب المال الذين يزدادون ثراءً، في المقابل الفقراء الذين يزدادون بؤسًا

الخشية أن مصر تحتضر من حيث لا نعلم، فالمشهد قاسي، ولعلّه أكثر بؤسًا من الفترات الحالكة التي عرفتها البلاد في تاريخها، وإن كان من المؤكد أن هذا الزمن هو الأشنع في تاريخها الحديث. وإن لم يكن احتضارًا، وقيل أن مصر البهيّة تعيش مخاضًا، فهو مخاض أشدّ من العسر وصفًا. كابوس اليوم هو قاتل، والرّجاء دائمًا أن نقتله قبل أن يقتلنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السيسي.. خُطب الدكتاتور المأزومة

102 مليار دولار ديون مصر الخارجية.. فلنسأل السيسي!