06-نوفمبر-2018

يعد نموذج القومية على أساس الأعراق في البوسنة والهرسك الأكثر تطرفًا (Getty)

قد يكون النموذج المعقد للتحاصص في البوسنة والهرسك، واحدًا من أقدم النماذج في التراث السياسي في منطقة البلقان وفي العالم، التي يتم تعريف الناس فيها بوضوح كطوائف وأعراق لها حصص في الدولة. وكما يوضح هذا التقرير المترجم عن صحيفة ليموند ديبلوماتيك، فإن هذه التجربة قد تساعد في فهم التجارب القومية للشعبوية الصاعدة في العالم.


 من دونالد ترامب، إلى فيكتور أوربان في المجر مرورًا بجايير بولسونارو في البرازيل، يبدو أن القومية أصبحت عماد الخطاب السياسي في كل مكان في الوقت الراهن. لكنها لم تكن بأي حال من الأحوال أكثر تجذرًا في أي مكان، بل وأكثر ضررًا مما آلت إليه في البوسنة والهرسك، التي أجرت انتخاباتها الوطنية يوم الأحد الموافق السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

إن الدستور البوسني بأكمله في حقيقة الأمر مجرد جزء من اتفاقية دايتون المُبرمة عام 1995، التي أنهت الحرب في البلاد

خلافًا لمعظم الأماكن الأخرى، لم يكن الخطاب السياسي السائد هنا تطورًا حديثًا. فبعد أكثر من عقدين من انتهاء الحرب التي راح ضحيتها قرابة 100 ألف نفس، وهو ما لا يزال صفةً مميزة تُعرف بها تلك الدولة البلقانية التي لا يزيد سكانها عن 4 ملايين نسمة، تتخذ البوسنة وضعًا يخولها تعليم الآخرين درسًا. ومما يثير العجب، أن الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى التي كانت مشاركة في قوات حفظ السلام بالبوسنة، ساعدت في إرساء هذا الدرس.

إن الدستور البوسني بأكمله في حقيقة الأمر مجرد جزء من اتفاقية دايتون المُبرمة عام 1995، التي أنهت الحرب في البلاد. لذا، يتناوب على حكم البلاد ثلاثة رؤساء ينتمي كل واحد منهم إلى أحد "الكتل السكانية" الثلاث، البوشناق (مسلمي البوسنة)، وصرب البوسنة، وكروات البوسنة، وينخرطون في إحدى كيانين شبه وطنيين منقسمين على أسس عرقية: هما جمهورية صرب البوسنة التي يسيطر عليها الصرب، واتحاد البوسنة والهرسك الذي يهيمن عليه البوشناق والكروات، والذي يحمل اسم البلاد أيضًا.

أدى تركيز اتفاقية تشارك السلطة على إنهاء الحرب فقط، إلى ولادة واقع سياسي تنأى عنه أي دولة. فقد سعت الاتفاقية إلى تهدئة كافة الأطراف المتناحرة خلال فترة الحرب، وهو ما تفتق عن عدم شعور أي طرف بالرضا الكامل عما حصل عليه. أضف إلى ذلك استفحال نظام الحصص على أساس الانتماء العرقي في كافة المستويات الحكومية، ما أدى إلى خلق بيئة تحكم فيها الأحزاب العرقية القومية، حيث تلعب سياسة الخوف من "الآخرين" دورًا محوريًا في النهج السياسي العام.

اقرأ/ي أيضًا: المجازر ككوارث طبيعية

أفضل مثال على ما يحدث عندما يحاول شخص ما الضغط على الطبيعة القومية للنظام البوسني، هو فوز زليكو كومسيك (Zeljko Komsic) في الرئاسة الثلاثية. اعتاد كومسيك تعريف نفسه على أنه كرواتي، وكثيرًا ما ادعى أن خلفيته العرقية ما هي إلا شيء شكلي. كانت والدته من أصل صربي، ووالده كان كرواتيًا، وعُمد في الكنيسة الكاثوليكية. زوجته بوشناقية. لذلك، خلال ترشحه في الانتخابات كمرشح كرواتي، حظي كومسيك بتأييد قوي من المجتمع البوشناقي في الاتحاد على مر السنين، رغم أن هذا الدعم لم يخل من انتقاد لقدراته كسياسي. أكسبته تلك الشعبية حنق الكروات "الأصوليين"، الذين لم يكونوا ليمنحوا أصواتهم إلا لمرشح قومي صريح، مثل دراغان كوفيك، والاتحاد الديمقراطي الكرواتي الذي ينتمي إليه (HDZ BiH).

يقول الصحفي، دراغان بورساك: "يسمح النظام الانتخابي لكومسيك بالترشح والفوز في الانتخابات". ويضيف "إن الحزب الديمقراطي الكرواتي HDZ -الحزب الكرواتي الرئيسي في البوسنة- في حقيقة الأمر ما هو إلا فرع محلي للحزب الرئيسي في الجارة كرواتيا". وتجدر الإشارة هنا إلى أن اثنين من المجموعات العرقية الرئيسية في البوسنة هم أغلبية سكانية في البلدان المجاورة، وكثير منهم يعتبرون كرواتيا وصربيا بلدانهم الأم.

ظهر ذلك بشكل جلي خلال الانتخابات التي تُجرى كل أربع سنوات. إذ أظهر رئيس الحكومة في العاصمة الكرواتية، زغرب، دعمه لكوفيك (Covic) بزيارته خلال حملته الانتخابية. كما سارع رئيس الوزراء الكرواتي، أندريه بلينكوفيتش (Andrej Plenkovic)، بوصف فوز كومسيك في الانتخابات بـ"الأمر المحزن بالنسبة للبوسنة والهرسك" لأنه "لم يُشعر المجموعات العرقية الدستورية الثلاث في البلاد بالارتياح"، فيما نشرت بعض وسائل الإعلام، مثل صحيفة غلوبوس (Globus) الأسبوعية مقالًا تهديديًا على صفحتها الأولى، وصفت فيه كومسيك بـ "حانوتي البوسنة، والشخص الذي سيقضى على الأمة". بينما كانت صحيفة فتشرني ليست (Vecernji List) الكرواتية اليومية هي الأكثر إساءةً في هذا الصدد، والتي نشرت عنوانًا يقول: "الوهابيون صوتوا لكومسيك الملحد لاستبعاد الكرواتي الكاثوليكي في نهاية المطاف".

أما الصحفي ألكسندر بريزار، فيوضح "أن طرق تأثير السياسيين والأحزاب في الرأي العام كثيرة. كل ما يمكن أن تحصل عليه هو قدر هائل من الصخب، بينما عدد قليل جدًا فقط من المواطنين من لديهم القدرة على التفكير النقدي، والعقلية المتفتحة، التي تمكنهم من الوصول إلى المعلومة الصحيحة".

عنوان صحيفة فتشرني ليست هو نموذج لبعض الصفات العنصرية التي تتقاذفها مختلف المجموعات العرقية لوصف بعضها البعض. عادة ما يسخر المواطن العادي ذو الخلفية القومية الكرواتية -وكذلك القوميون الصرب، في هذا الصدد- من البوشناق لكونهم مسلمين، ومتأثرين ثقافيًا بـ"الشرق"، إذ يصفونهم بـ"الوهابيين"، أو أتراك "متحولون". بينما يسخر القوميون الصرب من الكروات بسبب تبجيلهم للفاتيكان منذ قرون، أو بسبب استغلال النازيين لبلادهم في الحرب العالمية الثانية. أما البوشناق، فعادة ما يصفون كلا المجموعتين العرقيتين الأخريين بشكل عام بـ"القتلة" الذين يسعون إلى "إبادة" البوشناق، وتقسيم الغنائم المحلية فيما بينهم. تلك القوميات تعادي بعضها البعض، وتعزز بعضها البعض بشكل ما.

انضم الرئيسان الآخران، سيفيك دافيروفيتش (Sefik Dzaferovic)، وميلوراد دوديك (MiloradDodik)، إلى كومسيك في الرئاسة الثلاثية للبوسنة. وقد أصبح دافيروفيتش، العضو القديم في حزب العمل الديمقراطي الذي يهيمن عليه البوشناق، مرشح الحزب في وقت سابق من هذا العام خلفًا للرئيس المنتهية ولايته، بكر عزت بيغوفيتش (Bakir Izetbegovic) -ابن أول رئيس للبوسنة، علي عزت بيجوفيتش (Alija Izetbegovic)، والذي يعده البوشناق "الأب المؤسس" لهويتهم الإسلامية المعاصرة. في الوقت نفسه، تحول دوديك، عضو حزب التحالف الاشتراكي الديمقراطي المستقل، على ما يبدو إلى آلة قومية صربية لا يمكن ردعها. ويُنظر إليه على نطاق واسع على أنه أكثر السياسيين المحرضين على الكراهية في حقبة ما بعد يوغوسلافيا، بتصدر تصريحاته القوية عناوين الصحف. بغض النظر عن كومسيك، سعى مرشحو الأحزاب المختلفة إلى استمالة مختلف المجموعات العرقية الأخرى بالحديث عن المشاكل المشتركة التي تواجه مواطني البوسنة بشكل عام -مثل تفشي البطالة، والنظام التعليمي السيئ، والفساد-، لكن لم تكن لديهم فرصة كبيرة في مواجهة القومية المتغولة.

اقرأ/ي أيضًا: روسيا تستثمر في تفتيت البوسنة.. إعادة إنتاج "البلقنة"

لدى النظام السياسي في البوسنة أسلوب سريع في تحويل الإصلاحيين المقربين من الغرب إلى قوميين متعصبين. اُعتبر دوديك فيما مضى شعاع الأمل في جمهورية صرب البوسنة، التي تسيطر عليها الأحزاب التي قادت الحرب في البوسنة، وارتكبت أعمال وحشية لا حصر لها (أبرز مثال على ذلك، رادوفان كاراديتش Radovan Karadzic، مؤسس الحزب الديمقراطي الصربي، والذي أُدين بالإبادة الجماعية، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية). منذ ذلك الحين، انحرف دوديك أكثر فأكثر نحو القومية الصريحة، فدوديك الحالي لا يشبه بتاتًا دوديك القديم – الذي وصفته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين أولبرايت عام 1998 بـ"نسمة الهواء العليل". أما الآن، يرفض الشخص الذي فتن الغرب مصافحة سفير الولايات المتحدة في البوسنة، حتى أنه اتهمه هذا الأسبوع بممارسة ضغوط على مفوضية الانتخابات في البلاد، كما وُضع على قائمة عقوبات الولايات المتحدة لانتهاكه اتفاقية دايتون. ربما يكون أيضًا أكثر السياسيين الموالين للكرملين غرب البلقان، إذ يدعم دوديك الكرملين علنًا في عدد من القضايا. قال دوديك يوم الثلاثاء، بعد يومين من الانتخابات "أعتزم تقديم اعتراف (البوسنة) بوضع شبه جزيرة القرم الحالي (كجزء من الأراضي الروسية)".

عادةً ما يُرجع المراقبون الدوليون في الأوساط الأكاديمية والإعلام الفوضى القومية في البوسنة إلى ما يُعرف بـ"الكراهية القديمة"، تلك العبارة المُشينة المُثيرة للجدل التي استخدمها روبرت كابلان (Robert Kaplan) في كتابه الصادر عام 1993، "أشباح البلقان" (Balkan Ghosts). والذي تعود جذوره بالأحرى إلى القاعدة الجوية خارج مدينة دايتون، بولاية أوهايو. نجحت اتفاقية دايتون في وضع حد لأكثر الصراعات الدموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. إذ طُرحت حزمة من التسويات من أجل إيقاف الحرب: تنازل جميع الأطراف عن مناطق كانوا شديدي التمسك بها، كما اتفق الجميع -على مضض- على نظام معقد يهدف إلى وقف القتال، ومنع نشوبه من جديد.

لدى النظام السياسي في البوسنة أسلوب سريع في تحويل الإصلاحيين المقربين من الغرب إلى قوميين متعصبين

وافقت جمهورية صرب البوسنة بشكل كبير على تسوية المناطق التي سيطر عليها صرب البوسنة في نهاية الحرب، كما ترسخ اتحاد البوسنة والهرسك كجزء أصيل في اتفاقية واشنطن لعام 1994، والتي أنهت الحرب بين البوشناق وكروات البوسنة. أسست اتفاقية دايتون نظامًا لتقاسم السلطة على أساس عرقي، في جميع المستويات الحكومية تقريبًا: ليس فقط على مستوى الرئاسة الثلاثية الدورية، التي تُجرى بتوافق الآراء، بل أيضًا على مستوى الهيئات العليا على الصعيد الوطني والفيدرالي، من عضويات وتجمعات تُحدد على أساس عرقي، فضلًا عن آلية تُعرف باسم "حماية المصالح الوطنية الحيوية"، تتيح للسياسيين الاحتجاج إذا رأوا من وجهة نظرهم أن مشروع قانون جديد ربما يلحق الضرر بمجموعتهم. فكما ذكر أعلاه، اُتخذ ملحق اتفاقية دايتون دستورًا للبلاد.

على الرغم من كل ذلك التعقيد البيزنطي، يبدو أن أن اتفاقية دايتون قد حققت الهدف منها: فقد أنهت الحرب، وأرست السلام في البوسنة. المثير للسخرية أن هذا السلام كان له مساوؤه. على سبيل المثال، تقول غورانا مليناريفيتش، محامية حقوق الإنسان الدولية، إه ليس من المستغرب على نظام أسسه أصحاب النفوذ خلال فترة الحرب، أن يكون في صالح ذوي النفوذ إلى الآن، ويبقيهم في مواقع المسؤولية. وتضيف أنه "انبثق الدستور من اتفاقية وقع عليها ثلاثة رجال في قاعدة عسكرية بالولايات المتحدة لإنهاء الحرب. هؤلاء الرجال أسسوا البوسنة، ووضعوا دستورها بما يضمن وجودهم في السلطة دائمًا".

أما أستاذة العلوم السياسية ياسمين مويانوفيتش، فتقول إن ذلك أدى في المقام الأول، إلى وجود حالة أصبحت فيها الطائفية والهوية العرقية هي الشغل الشاغل للحياة السياسية،  وباتت "السلطة لا تُقسم بحسب الأداء الانتخابي للفرد، وإنما حسب الهوية العرقية المُفترضة أو المُعلنة".

يُمكن القول إن عبارة "المُفترضة أو المُعلنة" هي العبارة الرئيسية هنا. ففي حين سيحاول البعض في البوسنة إقناعك بخلاف ذلك، ويصر على أنهم جميعًا يتحدثون لغات مختلفة، وأن دولهم ذات أصول تاريخية شديدة الاختلاف، فإن الفرق الوحيد الملحوظ بين المجموعات الثلاث هو الدين. في يوغسلافيا الاشتراكية، كان التقليل من شأن وأهمية الدين أمرًا واضحًا، وبالتالي لم تكن الاختلافات بين المجموعات الثلاث ملحوظة بنفس الدرجة. غير أنه في الحقبة التي تلت اتفاقية دايتون للسلام، ومع دفع البوسنيين أكثر إلى قوالبهم الطائفية، أصبح الدين يلعب دورًا متزايدًا في حياتهم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أرثوذكس أو كاثوليك.

تتجلى الهوية في البوسنة بطرق منافية للعقل تمامًا. على سبيل المثال، لا تزال عشرات المدارس في الاتحاد مُقسمة، حيث يلتحق الطلاب الذين ينتمون إلى المجموعات المختلفة إلى أجزاء مختلفة من المدرسة، أو في بعض الحالات، يذهبون إلى المدرسة نفسها ولكن في أوقات مختلفة لتجنب الاختلاط بينهم. وقد صارت هذه الظاهرة شائعة لدرجة أنها أصبحت تقريبًا أمرًا عاديًا - وقد سئم البوسنيون أنفسهم من سماع عبارة "مدرستان تحت سقف واحد"، في الصحافة الدولية.

 وصفت أميلا بوكفيتش، وهي خريجة جامعية حديثة التخرج تعيش في سراييفو، مسقط رأسها مدينة غورني فاكوف، التي كانت مقسمة بالتساوي بين البوسنيين والكروات البوسنيين. ونظرًا لأنها بوسنية، وعلى الرغم من أنها كانت تعيش في أحد الأحياء مع جيران معظمهم من البوسنيين الكروات، فقد درست هي وزملاؤها البوسنيون في الطابق السفلي، بينما درس أصدقاؤها الكرواتيون مناهج مختلفة في الطابق العلوي من نفس المدرسة. بل الأدهى من ذلك، أنهم درسوا لغات مختلفة -اللغة البوسنية واللغة الكرواتية- على الرغم من أن العديد من اللغويين يتفقون على أن اللغة البوسنية والكرواتية والصربية ما هي سوى أوجه مفهومة بشكل متبادل من نفس اللغة السلافية الجنوبية متعددة المراكز. في يوغسلافيا، يُطلق على اللغة هناك، اللغة الصربية-الكرواتية، ويتم تدريسها بشكل موحد في جميع أنحاء منطقة البلقان الغربية بأكملها - مع الإصرار على "الاختلافات" التي أصبحت مألوفة فقط عندما يضطرون للتواصل مع الطلاب ذوي الهويات العرقية المختلفة، والذين يتلقون تعليمهم جميعًا الآن في مدارس مختلفة. ولذا فقد شن النشطاء المناهضون للقومية حملات كاملة حول الإصرار على أن يتكلم الجميع نفس اللغة، مما يمكنهم من فهم بعضهم البعض تمامًا. في النهاية، لاحظت بوكفيتش، أنهم جميعًا يتحدثون نفس اللغة مع بعضهم البعض بمجرد خروجهم من المدرسة.

توصل بعض المواطنين إلى طرق مبتكرة لمواجهة عبثية النظام. فقد واجهت محامية حقوق الإنسان، ملينارفيتش، حكومة البوسنة بقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي تسلط الضوء على الطبيعة التمييزية للنظام. اعترض مواطنان بوسنيان، أحدهما من أصول رومانية والآخر من أصول يهودية، على أحكام الدستور التي تسمح لأعضاء الجماعات التأسيسية بالترشح للرئاسة. وقد خلص قرار المحكمة إلى أن الدستور ينتهك بالفعل الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان - ولكن بعد مرور تسع سنوات، لا تزال الحكومة البوسنية لم تنفذ الحكم، ولا يزال الدستور ينتهك الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

اقرأ/ي أيضًا: دماء سربرنيتسا لم تجف.. إدانة "جزئية" لهولندا في المذبحة

تقول ملينارفيتش: "أعتقد أن جميع الانتخابات منذ تلك التي جرت في عام 2010 غير قانونية"، وأردفت: "يعتبر قانون العقوبات في البوسنة والهرسك أي تقصير في احترام وتنفيذ الأحكام الصادرة عن المحكمة الأوروبية، بمثابة جريمة جنائية، وأولئك الذين يمتنعون عن القيام بذلك، قد يواجهون عقوبة بالسجن تتراوح مدتها بين ستة أشهر وخمس سنوات". هذا هو السبب الذي يُعزى إليه إقدامها على تقديم طعون قضائية خلال الانتخابات التي جرت في عامي 2014 و2018. ووفقًا لما قالته، "قدم حوالي 100 مواطن هذه الشكوى في المرة السابقة. وقوبلت بالتجاهل. وفعلنا الشيء نفسه هذا العام، ولا نتوقع أن الشكوى ستؤخذ على محمل الجد".

 أكد قراران لاحقان صدرا بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، على إشكالية النصوص الواردة في الدستور. ففي حين أن أزرا زورنيك، وهي سياسية رفضت إعلان انتمائها إلى أي مجموعة عرقية معينة، صرحت أنها ببساطة مجرد مواطنة بوسنية، إلا أنها لم تكن مؤهلة للترشح للرئاسة. وقد رفعت دعوى قضائية احتجاجًا على ذلك. وكذلك، إيلياز بيلاف، وهو مواطن بوسني يعيش في الجهة ذات الأغلبية الصربية، ولذا لم يكن مؤهلًا للترشح لمنصب الرئاسة المُخصص لعضو من مجموعة صرب البوسنة.

رسخت هذه القيود الدستورية وجود عوائق خطيرة للمواطنة. يقول الصحفي دراغان بورساك إنه "إذا لم تكن صربيًا أو كرواتيًا أو بوسنيًا، فأنت بموجب القانون ممنوع من الترشح للمناصب العليا"، وأضاف: "ومع ذلك، يتعين عليك الوفاء بالتزاماتك المدنية، مثل دفع الضرائب. ستتمتع بحقوق مواطنة محدودة، إلا إذا أعلنت انتمائك إلى إحدى الطوائف القومية الثلاث".

ورغم أنه من الواضح أن النظام يعاني من أوجه قصور ظاهرة، سيقول الكثيرون إن التراجع عنه قد يؤدي إلى عواقب أسوأ. يقول كريستوف بندر، نائب رئيس مؤسسة "مبادرة الاستقرار الأوروبي"، وهي مؤسسة فكرية بحثية تركز على شؤون جنوب شرق أوروبا: "تضمن تلك التدابير الوقائية عدم حصول أي من المجموعات العرقية الرئيسية الثلاث -والتي دارت بينهم العديد من الحروب في السابق- على أغلبية التصويت"، وأضاف "كان ذلك هو ثمن إقرار السلام في عام 1995. ولا يزال هو نفسه ثمن السلام الآن". وأن دستور البوسنة الذي يصعب تغييره هو ميزة، وليس هناك خلل في تصميمه.

لا تزال عشرات المدارس في البوسنة والهرسك مُقسمة، حيث يلتحق الطلاب الذين ينتمون إلى المجموعات الإثنية إلى أجزاء مختلفة من المدرسة، أو في بعض الحالات، يذهبون إلى المدرسة نفسها ولكن في أوقات مختلفة لتجنب الاختلاط

واختتم قائلًا: "لا يزال هناك الكثير مما يجب القيام به في البوسنة، ولكن ينبغي أيضًا على الأجانب ذوي النوايا الحسنة، أن يدركوا أخيرًا أنهم ليسوا أفضل في حل مشاكل البوسنة أكثر من البوسنيين أنفسهم".

 عندما وُقعت اتفاقية دايتون، شُكلت مجموعة مكونة من خمسين دولة للإشراف على تنفيذ الاتفاقية، مع وجود مسؤول رسمي مُعين على رأسها، مُشكلة بذلك ما يعرف باسم "مكتب المفوض السامي".

يتمتع مكتب المفوض السامي بصلاحية طرد وفصل أيّ سياسي منتخب على أيّ مستوى حكومي من منصبه، وقد قام ذلك بالفعل عشرات المرات، إلا أنه لم يقم بذلك منذ أكثر من عقد. ويُعزى هذا التردد والإحجام عن القيام بذلك الأمر إلى الجهود التي يبذلها المجتمع الدولي لتقليل الدور ذي الطابع التدخليّ الذي يؤديه في شؤون البوسنة الداخلية.

لكن نوعية القومية في البوسنة والتي نظر إليها المجتمع الدولي باستياء؛ آخذة في الازدياد في كافة أرجاء أوروبا. مع وجود القوى اليمينية، شبه السلطوية، وحتى التي تميل إلى اليمين المتطرف والتي تمارس المزيد من النفوذ على السياسة في بعض دول، مثل: ألمانيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، إذ لا يرغب السياسيون من هذه البلدان في التورط في الصراعات أو الأزمات المحتملة خارج حدود بلدانهم؛ خاصة إذا كان أولئك المتصارعون من نفس القومية أو التيار السياسي؛ مثلما هو الحال مع السياسيين البوسنيين. يقول يوفانوفيتش: "لن يكون المجتمع الدولي -الذي هو ذاته في قبضة هذا النوع من الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة- موجودًا هناك لضمان السيادة والسلامة الإقليمية للبوسنة وحمايتهما".

وبينما تستعد البوسنة لتشكيل حكومة لها عقب الانتخابات، لم يتضح بعد كيفية تصرف الكروات المتواجدين في البلاد وممثلي حزب "الاتحاد الديمقراطي للبوسنة والهرسك" (وهو حزبٌ كرواتي)، بعد أن شعروا بالإهانة و"الخداع" من قبل أحد مرشحي الرئاسة.

من جانبه، حذر كوفيتش بالفعل من أن فوز زيلكو كومشيتش يهدد "بأزمة في البوسنة لم يسبق لها مثيل". ويشعر بعض المراقبين بالقلق من أن "حزب الاتحاد الديمقراطي" يمكن أن يعيق تشكيل الحكومة في الاتحاد، ويترك الكيان بدون رئيس، أو برلمان، أو حتى حكومة. وكذلك يُبقي البرلمان الوطني البوسني بلا مجلس أعلى لتسيير الأعمال. وإذا كان صديقه ورفيقه الوطني (وإن كان ذلك غير المحتمل) ميلوراد دوديك  مستعدًا لدعم كوفيتش و حزب الاتحاد الديمقراطي في الجهود الرامية إلى إصابة البلاد بالشلل، فإن إمكانية حدوث الأزمات والفوضى في البوسنة سوف تتزايد فحسب.