18-نوفمبر-2016

أنس سلامة/ سوريا

أرفع رأسي إلى السماء، أفتّشُ عن طيورٍ تهاجرُ نحوَ الشرق، حيث تولدُ الشمس كلّ يوم، وحيثُ تنصِبُ الحربُ خيمتَها، وتُطلقُ أغنامَها لترعىَ حشائشَ القلوب وتتركها كصحراءٍ خاوية إلّا من رمال الحزنِ الكثيفة. الشرقُ قِبلةُ القلوب التي أتعبها بردُ الغربِ، وقِبلة فنجانِ أبي، كانَ يجلسُ على العليّة مُيممًا شطرَ الفرات، منتظرًا ولادة الضوء برفقة قهوةِ أمّي، فماتَ برفقة بابونجِها، تركَ نصفَ الكأسِ وقصدَ مقبرةَ القرية شرقًا بهدوء، كي لا يرى عينيّ. لم أبكِ، فقط شربتُ نصفَ الكأس المتبقّي، وغرّبت.

أفتّشُ في السماءِ، هل مازالَ هناكَ طيورٌ تهاجرُ غيرنا؟ نهاجرُ هاربينَ من بردِ الموتِ إلى دفءِ الحياة، فنقعُ في فخِّ البرزخ. متأخرين أدركنا أنّ هذا الدفء ليسَ إلّا زفير الغول الذي بدأَ يأكلنا.

أفتّشُ جيدًا عن السنونو، هل سيأخذُ رسائلي التي أكتبُها، ويوصِل اعتذاري إلى الزيتونِ المحاصر؟ هل سيحملُ سورةَ الفاتحة إلى قبورِ "الحجر الأبيض"؟ وهل سيخبّئ أحلامي في غِيران "أوضة" أجدادي الياسين، حيثُ التقيتُه أوّل مرّة، وحلمت به؟

لا إجابات، ولا سنونو، فالسماء مزدحمة بالغيوم، فيما شرقًا تزدحمُ بالطائراتِ والسنونواتِ البيض التي تصعدُ بسرعةٍ تتناسبُ طردًا مع تفشّي داء الطاعونِ الذي يصيبُ الكائنات. هي ذات السماء، لكنّ شيئًا ما حدثَ فارتبكتِ الزُرقة، ارتبكَ المنطقُ واعتلى عرشَ النواقصِ، لا كمالَ، وجلدُ ذلك الطفلِ في حيّ الوعر قد انسلخَ كشعورِنا، لا كمال. كان يرتجفُ بفعلِ النابالم، عيناهُ تتقيآن صورَنا والملح. 
والصمتُ أبلغُ. أتساءل: ألم يكن هذا الطفل هو "الصُّوْر" الذي ينفخُ للقيامة يا الله؟ أينَ القيامة إذن؟

أفتّشُ في السماءِ عن الطريقِ لكي أعودَ كما أتيتُ. أريدُ تذكرةً لأنجو من قناعِ الآخرين، أريدُ أنْ أتلمّسَ الأشياءَ حقًّا، أنْ أرى قنَّ الدجاجِ وجارَنا الراعي يلوّح للشياهِ بلا عصا، وأرى الغروبَ محمّلًا بعشائِنا الحيِّ البسيطِ وبالتعاليلِ الرهيفةِ؛ أخوتي يتهامسونَ بموعدِ التلفازِ -كانَ حياتنا، أمّي تكنّسُ حزنَنا، وأبي يدخّنُ هادئًا كالليلِ، منتظرًا قدومَ "ربيعِهِ"، وأنا أعدّ نجومَها -تلكَ السماء- وأتركُ القمرَ احتمالًا.

أفشيتُ سرّي للمدينةِ، لم تُعرْني وردةً، أفشيتُ سرّي للغريبِ فنالَ منّي كالقريبِ بطنعةٍ في ظهرِ قلبي، لم أمتْ، لكنّ قلبي ظلّ ينزفُ حنطةً، والخبزُ فوقَ الجمرِ يهجسُ: أينَ أمّكَ يا عليْ؟ فأجيبُ: أمّي غادرتْ مثل البلادِ إلى الجنوبِ، ولم يعدْ للبيتِ أهلٌ، فاحترقْ يا خبز مثلي.

أفتّشُ في السماءِ عنِ الوقتِ، مرّ بسرعة ولم ألمحْهُ إلّا في دفترِ يومياتي، حينَ كانَ يومي يتألّف من أربعٍ وعشرينَ ساعةً وقصيدة. الآنَ أصبحَ يتألّفُ من ثلاثِ ساعات وستٍ وعشرينَ قذيفةً تسقطُ على غرفتي غربَ لندن من جبلِ قاسيون فأكتبُ قصيدةً عن البردِ الذي يصيبُ العالمَ؛ يجلس متفرّجاً ويصفّقُ لموتِنا بأكفّ إنسانيته، لقدَ انتصرَ موتُنا، خسرَ العالمُ فرصتَه بأن يكون عالماً، وخسرتُ فرصتي الوحيدة بالبقاء. أنا الآنَ لاجئٌ من الطِرازِ الرفيع، أشربُ "chai latte" في مقهى "COSTA"، أشاهد نشرةَ الأخبار على "iPad"، وأبكي كي أُقنعَ نفسي أنّني أدّيتُ واجبي على أكملِ وجه، أقنعُها أنّ وجهي بلا قناع، فأجدُ أنّ القناعَ هو الحياة، والموتُ هو الحقيقة.

أفتّشُ في السماءِ عنِ حقيقةِ الحقيقة، لكنّ المجازَ كذبةٌ صفراء كأوراقِ الشجرِ في "كرمِ الفِتّيْه" عندَ قدوم أيلول، كغاز الكلور، مع فرقٍ بسيط بينهما؛ أنّ أوراق الشجر في كرمِ الفِتّيْه خضراء مصفرّة، وغاز الكلور أصفرٌ مخضرّ، وفيما تتساقطُ أوراقُ الشجر تعِبةً من اليباسِ، يفوح الكلور في حيّ السُكري في حلب، فأختنقُ وأنا أشربُ الشايَ في مانشستر، لقد ارتجفَ جسدي فيما يلعبُ بقيّة الأصدقاء "برتيةَ تريكس" غير منتبهين للتيّار الكهربائيّ الوافد عبرَ السكّر، كان المشهد أشبه بتدحرجِ كاميرا البثّ المباشرِ من أعلى تلّةٍ إلى أسفلِ السافلين.

سقطَ المجاز كبرميلٍ محمّلٍ بالشظايا وانفجرَ في سوقِ عكاظ، ماتَ الشعراءُ جميعاً، وبقيتُ وحدي كي أقولَ: "قفا نبكِ"، إنّها الحقيقة الوحيدة، لا مجازَ في ذلك، أبكي كي أتلمّسَ روحي بكفّ العين، أغسلُ عنها الغبار وكلّما اشتدّ القصفُ على حلب أزددتُ تعلّقًا بالماضي، ونجوتُ من المجازِ، فقط كي أقول للعالمِ: يا ابنَ القحبة.

أفتّشُ في السماءِ عن النجاة، فالأرضُ صارتْ رحمَ الكارثة، ونحن الأجنّة المُجهضة.

كانت خطيئة أمّنا أنْ أنجبتنا للحياة، فكانَ موتُ القادمينَ من الحكايا حصّةً من بينِ آلافِ الحِصصْ. لم يفهمِ التاريخُ ما المغزى، ولم نفهمْ لماذا يرتدونَ وجوهَهم مثل الحذاءِ ويصرخون: لثأركَ المكلومِ جئنا، فاحتضنّا يا قتيل لنقتلَ الأحياءَ باسمِكَ. يأكلونَ القلبَ حيًّا، يشربونَ دمَ الجنينِ، ويصرخونَ: لثأرِكَ المكلومِ عدنا، فانتظرْ يا ابنَ الإلهِ.. اِنتظرْ.

نادى المنادي: أرضُنا حُبلى، فكونوا ظلّها كي لا يضيعَ الحرثُ غورًا. البلادُ لكمْ، تعالوا كي نموتَ معًا، أو نستعيد طريقنا. كالنحلِ عودوا، أو سلامًا.. أو سلامًا.

لم نعدْ.

- البحرُ قِبلتُنا إذن، والشمسُ عطشى، "سوفَ ننجو" قالها سِرًّا وماتْ. 
- جئناكَ يا بحر الخطيئةِ مخطئينَ فلا تكلْنا للغيابِ، ولا تُقاسمْنا النجاةْ.
- من قال أنّا قد نجونا أو عبرنا البحر كالصيّاد حبًّا؟ قد غرقنا يا خيام، وإنْ نجونا فالحِبالُ نجاتُنا، نمشي عليها قانعينَ بأنّكِ الوطنُ المقدّس، أينما حلّتْ ظعائنُنا وجدْناكِ البدايةَ والنهايةَ.
- نحنُ بدوٌ لم يفوا بالعهدِ، فانكسرَ الوتد.

أفتّشُ في السماءِ. إنّها تبكي. إنّها تُمطر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

من دفتر يوميات الموتى

أسماؤنا غزلت بالخوف