17-أغسطس-2018

بدأ القطاع العام في سوريا بالتأميم، وانتهى بالانهيار (رويترز)

ألترا صوت – فريق التحرير

كانت سوريا لا تزال تستيقظ كل فترة على انقلاب عسكري جديد، حتى أفاقت في 24 شباط/ فبراير 1958 على إعلان الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، قيام  الجمهورية العربية المتحدة

انتهج حافظ الأسد خلال فترة حكمه سياسة الحزب الواحد المسيطر على كل شيء بما في ذلك كافة الموارد الاقتصادية

كان الزعماء العرب مأخوذين بتجربة الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، فلم تكن إلا أشهر قليلة حتى بدأ عبد الناصر بإصدار قرارات تأميم البنوك، والشركات الصناعية الكبرى الخاصة، مؤذنًا ببداية عهد جديد من السيطرة على جميع مفاصل الجمهورية المتحدة الاقتصادية، لكنها لم تستمر طويلًا حتى جاء خبر الانفصال في أيلول/سبتمبر 1961.

القطاع العام السوري.. سيرة مختصرة

وإذا كان العام 1958 بداية التأسيس للقطاع العام في سوريا من بوابة عملية التأميم التي بدأتها الجمهورية العربية المتحدة، فإن انقلاب الثامن من آذار/مارس 1963 الذي نفذه حزب العربي الاشتراكي سار في عملية التأميم، وأعاد رسم الحياة الاقتصادية للبلاد وفق النموذج الاشتراكي (الاتحاد السوفييتي)، حتى جاء انقلاب 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 بقيادة وزير الدفاع حينها حافظ الأسد.

اقرأ/ي أيضًا: حافظ الأسد.. ذاكرة الرعب

انتهج الأسد خلال فترة حكمه التي امتدت من 1970 إلى 2000 سياسة الحزب الواحد، فقد كانت كافة الموارد الاقتصادية خاضعة لسيطرته، إذ قام بعملية تأميم جديدة وضع فيها يد حكومته على ما لم يكن مؤممًا من شركات خاصة، وامتدت عمليات التأميم لتشمل الأراضي الزراعية، حتى كانت فترة حكمه مماثلة تمامًا للحقبة الستالينية في الاتحاد السوفييتي في كل تفاصيلها.

ومع السنوات الأخيرة من حكم الأسد كان القطاع العام في سوريا قد بدأ بالتفتت نتيجة تنامي الفساد داخل شركاته، كانت سوريا واحدة من بين الدول التي أصبح فيها الفساد مرتكزًا أساسيًا، غير أن الحال اختلف مع توريث بشار الأسد للحكم في حزيران/ يونيو 2000، الذي كان منفتحًا على اقتصاد السوق الحر، وشرَع بخصخصة القطاع العام في سوريا تدريجيًا تحت ذرائع الخسارة، حيثُ كانت بداية انهيار القطاع العام إما بالدمج مع الشركات الخاصة، أو تحويله إلى شركات خاصة في الأساس.

النظام السوري المحكوم بتوجهات الاتحاد السوفييتي

 كانت استمرارية القطاع العام في سوريا محكومة بتوجهات وعلاقات "النظام الحاكم" مع الاتحاد السوفييتي أو دول أوروبا الشرقية، وهو ما يؤكده الصحفي علي نمر، وهو واحدٌ من الصحفيين القلة الذين كانوا مواكبين للملف الاقتصادي في سوريا منذ استلام الأسد الابن للسلطة، واشتغل على مواد مهمة أثارت أكثر من قضية فساد ضربت شركات القطاع العام في سوريا.

ويضيف نمر لـ"ألترا صوت": "في القوانين والدساتير، كانت الواجهة تحت هذه التسمية، أي القطاع العام"، لكنه على الجهة الأخرى، كان "التطبيق العملي للأسد الأب بتسليم مفاتيح الاقتصاد للبرجوازية البيرقراطية التي تحكّمت بالقطاع العام كوسيط بينها؛ والشركات الأجنبية".

أخضع حافظ الأسد كل شيء بما فيه الموارد الاقتصادية، لسيطرته
أخضع حافظ الأسد كل شيء بما فيه الموارد الاقتصادية، لسيطرته

تلك المنظومة الاقتصادية التي أسس لها الأسد الأب رافقتها "سيطرة كاملة على جميع الاستثمارات بالربح السريع، والسماح بظهور وتفشيّ الفساد كي يكون الشماعة في تغيير السياسات الاقتصادية فيما بعد"، بحسب نمر الذي يشدد هنا على أنه بعيدًا عن التسميات فإن النظام السوري (ممثلّا بالأسدين الأب والابن) تعمّد "في سياساته تجويع المواطن منذ أول سبعينات القرن الماضي، وحتى تاريخه، كي لا يفكر إلا بلقمة عيشه، وألا يبقى لديه الوقت الكافي في كشفه والوقوف ضده قراراته".

"التحرير" الاقتصادي

دخل الاقتصاد السوري مع استلام الأسد الابن للسلطة مرحلة جديدة، بعد أن حسم خياره بالاتجاه نحو دعم اقتصاد السوق الحر، الذي كان عرّابه نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري حينها. وفي حديثٍ لصحفية السفير اللبنانية يرجع لعام 2008، يقول الدردري إن "سوريا حسمت أمرها واتبعت خط الاقتصاد الحر بصيغة اقتصاد السوق الاجتماعي"، خلال تلك الفترة كان السجال الاقتصادي مرتفعًا بالتزامن مع اتجاه النظام لتحرير أسعار السلع الشرائية الأساسية للمواطن صاحب الدخل المحدود.

يقول علي نمر حول الفترة التي أعقبت استلام الأسد الابن للحكم، موضحًا أنه "توجه منذ استلامه الحكم نحو الغرب، وشهدت سوريا في عهده أكبر عملية تحرير اقتصادي في تاريخها المعاصر". ويشير إلى أن "أكثر ما هو مثير للضحك أن الأسد الابن، بين أعوام 2000 و2005 أصدر 1200 قانون ومرسوم جميعها كانت محابية للشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية، وتحت شعار فضفاض (التجارة قاطرة النمو) وأعتقد أنه يستحق بذلك الدخول لموسوعة غينيس للأرقام القياسية"، يقول ساخرًا.

 شهدت سوريا في عهد بشار الأسد أكبر عملية تحرير اقتصادي دفعت البلاد نحو كارثة اجتماعية هددت الطبقات الوسطى والفقيرة

ومنذ عام 2005 ارتفعت الأصوات الاقتصادية منذرًة بكارثة اجتماعية تهدد الطبقتين الوسطى والفقيرة في حال مضى النظام السوري باتجاه تبني سياسة اقتصاد السوق الحر، وجرت نقاشات عديدة حول السياسات الاقتصادية في ندوات "الثلاثاء الاقتصادي"، التي كانت تنظمها جمعية العلوم الاقتصادية السورية، حيثُ قال وزير الاقتصاد والتجارة الأسبق عامر لطفي، خلال ندوة عام 2007، إن "تحرير التجارة الخارجية أخذ مكانته الطبيعية ضمن إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي كقاطرة للنمو الاقتصادي".

اقرأ/ي أيضًا: الاقتصاد السوري.. الانهيار المخيف

ويلفت علي نمر هنا إلى أن الغريب في هذا الأمر كان "اللعب على وتر الاقتصاد الاجتماعي من خلال سياسات ليبرالية معتمدًا على كبار الاقتصاديين بتمريرها"، مشيرًا إلى أن النظام السوري "طبّق اقتصاد السوق الاجتماعي ضمن الخطة الخمسية التاسعة التي كانت إحدى أهم أهدافها إصلاح القطاع العام ودعمه وإعادته لحجمه الطبيعي ومكافحة البطالة".

إلا أنه وفق ما يضيف علي نمر "مع الأسف قوى الفساد في النظام المتحالفة مع رجال الأعمال الجدد وحديثيّ النعمة أمثال رامي مخلوف ومحمد حمشو وغيرهما قضوا على الخطة والقطاع العام معًا، ولتقضي بعد سنتين منها على مهندس الخطة الدكتور عصام الزعيم أيضًا".

كان عصام الزعيم، واحدًا من الاقتصاديين الذين دعموا تطبيق سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي، حيثُ رأى فيها وسيلًة لإيقاف سياسة اقتصاد السوق الحر، وقد شغل خلال حياته منصب وزير الدولة للتخطيط، ومرًة أخرى وزير الصناعة، ونشر خلال تلك الفترة ورقة بحثية عنوانها "اقتصاد السوق الاجتماعي بين محددات العولمة والتحديات الوطنية" لخص فيها سلبيات وإيجابيات هذه التجربة، وهناك شكوك تثار حول ضلوع النظام السوري بوفاة الزعيم.

سياسات الدمج.. أولى مراحل انهيار القطاع العام

بدأ ناصر زلفو عمله في القطاع العام في سوريا مطلع الثمانينات في شركة الأعمال الإنشائية، وهي واحدة من شركات القطاع العام التي كانت تشرف على تنفيذ مشاريع البنى التحتية، مثل بناء الجسور، وشق الطرقات. ووفق حديثه لـ"ألترا صوت"، فإن الشركة كانت تضم نخبة من "المهندسين المتمرسين" في العمل الإنشائي.

عملت الشركة بحسب زلفو على تنفيذ عديد المشاريع التي ساعدتها على تحقيق "أرباح جيدة لرفد الميزانية العامة". إلا أن السياسات الاقتصادية التي بدأ بتنفيذها بشار الأسد، سرعان ما امتدت للشركة الإنشائية، حين جاء "اليوم المشؤوم" الذي صدر فيه قرار دمج الشركة مع شركة قاسيون "المتهالكة والفاشلة بغية إعادة التوازن لشركة قاسيون الخاسرة"، على حد تعبير زلفو.

أمعن بشار الأسد في سياسات الخصخصة التي شابها فساد أدى لانهيار الاقتصاد السوري
أمعن بشار الأسد في سياسات الخصخصة التي شابها فساد أدى لانهيار الاقتصاد السوري

وكان بشار الأسد عام 2003، قد أصدر قرارات خاصة بشركات القطاع العام في سوريا، أفضت لدمج بعض الشركات الخدمية والإنشائية فيما بينها. ويوضح زلفو أنهم بعملية الدمج التي حصلت "قضوا وأجهزوا على شركة ناجحة"، لافتًا إلى أنه اعتبارًا من ذلك التاريخ "بدأت البيرقراطية الإدارية تنهش وتدمر الاقتصاد من خلال الإجراءات الأحادية".

ويرجع ناصر زلفو فشل عملية الدمج "للاختيار السيئ للكوادر المشرفة، والتمييز، وعدم الرقابة"، مشددًا على ممارسة النظام السوري لسياسة "إفساد من لم يتم إفساده، بحيث يصبح الجميع فاسدين حتى لا يتمكن أحد من محاسبة أحد". وصنفت منظمة الشفافية الدولية في تقريرها السنوي عن الفساد الصادر مطلع العام الجاري، سوريا في المركز 14. ووفق تصنيف المنظمة فإن الدرجة صفر تعتبر الأكثر فسادًا، وكلما ارتفعت قلت نسبة الفساد.

المشاريع الوهمية

ناصر زلفو الذي كان نشطًا في ميثاق اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السورين، وترّشح قبل ما يزيد على 10 أعوام لانتخابات الإدارة المحلية، يشير خلال حديثه لـ"ألترا صوت" إلى أنه مع استلام بشار الأسد للسلطة "بدأ في تنفيذ المشاريع الوهمية"، في إطار سعيه لتحويل سوريا لنموذج اقتصادي مختلف من خلال تسليمه رامي مخلوف، ابن خالته، شركات اتصال الهواتف المحمولة، كما قام بتحرير الأسعار "حتى وصلت سوريا إلى حدود كارثة بعدما حرر سعر المحروقات".

وكان النظام السوري قد بدأ عام 2007، باتخاذ مجموعة قرارات رفع من خلالها الدعم عن المحروقات، وأرجع حينها وزير النفط سفيان علاو السبب "لمكافحة تهريب المازوت" للبلدان المجاورة، ما سبب بخسارة للميزانية تقدر بـ240 مليون دولار أمريكي على حد قول علاو. ويشير تقرير صادر عن الجهاز المركزي للرقابة المالية، إلى أن حجم الخسائر التي تكبدها القطاع العام في سوريا ما بين عامي 2006 و2011، بلغ تريليون و480 مليار و411 مليون ليرة سورية.

ويضيف زلفو أنه بعدما كانت سوريا تنتج "ما بين أربعة وخمسة مليون طن من القمح، أصبحت تستورده من أوكرانيا"، كذلك شكل ارتفاع الأسعار الذي وصفه بأنه جاء "بشكل جنوني" إلى "عزوف الفلاحين عن الزراعة". 

في عهد بشار الأسد، سيطرت طبقة رجال المال والأعمال على أعلى سلطة دستورية في البلاد، حتى دفعوا بسوريا اقتصاديًا واجتماعيًا نحو الهاوية

ومثلهم كان للقطاع التعليمي نصيب من السياسات الاقتصادية السلبية التي أدت "لانحداره"، بعد أن بدأ بـ"رفع معدلات القبول الجامعي، والموافقة على إنشاء جامعات خاصة"، فضلًا عن "تعامل أساتذة الجامعات مع الطلبة بطريقة الابتزاز ودفع الرشاوي". ويختم زلفو حديثه بالقول، إن طبقة رجال الأعمال والتجار هم "المسيطرين على أعلى سلطة دستورية في سوريا"، ولذلك "نجد سوريا اليوم ذهبت في مهب الريح".

 

اقرأ/ي أيضًا:

بسطات سوريا.. اقتصاد الظل والبسطاء والفساد

خطة إعادة إعمار سوريا.. منفعةٌ للحلفاء وإمعانٌ في التمييز والاضطهاد