في 19 كانون الأول/ديسمبر 2024، احتضن القصر الرئاسي الجديد بالعاصمة الإدارية (60 كم شرق القاهرة) فعاليات قمة "الدول الثماني النامية". وكان هذا أول ظهور علني لهذا القصر، الذي أثارت فخامته جدلًا واسعًا وأقاويل كثيرة، إذ يمتد على مساحة تزيد على 2.5 مليون متر مربع، أي نحو 10 أضعاف حجم البيت الأبيض في الولايات المتحدة. فيما وصفه رواد مواقع التواصل الاجتماعي بـ«قصر فرساي» أو"Château de Versailles"، أحد أهم القصور الملكية في فرنسا.
تطرق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الجدل المثار بشأن بناء قصور رئاسية جديدة في مصر، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تواجهها البلاد، وذلك خلال كلمته في المؤتمر الثامن للشباب، الذي عُقد في مركز المنارة للمؤتمرات بالقاهرة الجديدة، في 14 أيلول/سبتمبر 2019. وردّ على بعض تلك الانتقادات قائلًا: "أبني قصورًا رئاسية... وأبني دولة جديدة باسم مصر"، مضيفًا: "أبني قصورًا في العاصمة الإدارية ستشاهدها الدنيا بأكملها... هل مصر قليلة الشأن أم ماذا؟ هل تظنون أن مصر شيء ضئيل؟"
أثارت فخامته جدلًا واسعًا وأقاويل كثيرة، إذ يمتد على مساحة تزيد على 2.5 مليون متر مربع، أي نحو 10 أضعاف حجم البيت الأبيض في الولايات المتحدة
أعاد هذا الجدل فتح ملف القصور الملكية المصرية المهملة، التي تسكنها الخفافيش، حيث تحتضن مصر أكثر من 40 قصرًا ملكيًا، خمسة منها تُصنَّف ضمن الأكبر والأفخم في العالم، وكانت لها مكانتها ونفوذها قديمًا، وتُعتبر كنوزًا لا تُقدَّر بثمن. ويُثار التساؤل حول ما تتعرض له من إهمال وتهميش، ولماذا لم يُستفد منها رغم ما تتمتع به من إمكانيات وقيمة تاريخية وتراثية.
قصر الاتحادية.. المقر الرسمي للرئاسة
يُعرف باسم قصر العروبة أو قصر الاتحادية أو قصر هليوبوليس، ويقع في منطقة مصر الجديدة بالقاهرة. وهو القصر الرسمي لرئاسة الجمهورية، حيث يستقبل فيه رئيس الدولة الوفود الرسمية الزائرة.
تم بناؤه عام 1910م، حين افتُتح كفندق "جراند أوتيل" تابع لإحدى الشركات الفرنسية. صمّمه المعماري البلجيكي إرنست غاسبار، ويضم 400 غرفة، إضافةً إلى 55 شقة خاصة وقاعات بالغة الضخامة، زُينت بأثاث فاخر مستوحًى من طرازي لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر. تبلغ مساحة قاعته الرئيسية 589 مترًا مربعًا، بينما يصل ارتفاع قبته إلى 55 مترًا، وقد أشرف على تصميم ديكوراتها كبار مهندسي الديكور في أوروبا.
ظل الفندق لعقود طويلة مَعلمًا سياحيًا بارزًا استضاف العديد من الشخصيات المرموقة ورجال الأعمال البارزين، وكان من بين نزلائه الملك ألبير الأول ملك بلجيكا وزوجته الملكة إليزابيث دو بافاريا، وميلتون هيرشي، مؤسس ومالك شركة "هيرشي" الأميركية الشهيرة للشيكولاتة، وجون بيربونت مورغان، المصرفي والاقتصادي الأميركي ومؤسس مجموعة J. P. Morgan.
ازدادت أهمية الفندق خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث أصبح وجهةً للعديد من الشخصيات الوافدة، وتحول في بعض الفترات إلى مستشفى عسكري ومقرٍّ لتجمع الضباط التابعين لسلطة الاحتلال البريطاني في مصر.
بعد ثورة يوليو 1952، قامت الدولة المصرية بتأميم الفندق ضمن موجة التأميم التي شملت العديد من المنشآت. وفي عام 1972، خلال فترة حكم الرئيس أنور السادات، تم تحويل الفندق إلى مقر اتحاد الجمهوريات العربية، الذي ضم آنذاك مصر وسوريا وليبيا. ومنذ ذلك الوقت، أصبح يُعرف باسمه الحالي غير الرسمي "قصر الاتحادية" أو "قصر العروبة".
وفي الثمانينيات، اعتمد الرئيس المصري حسني مبارك القصر كمجمع رئاسي رسمي للدولة، حيث كان يستقبل فيه الوفود الأجنبية الرسمية الزائرة لمصر. وهكذا، تحوّل فندق "جراند أوتيل" رسميًا إلى القصر الرئاسي الذي يُدار منه العديد من شؤون الدولة المصرية، حتى وإن لم يكن المقر الدائم لإقامة الرئيس، إذ كان يفضّل الإقامة في قصور أخرى، مثل تلك الواقعة في شرم الشيخ.
قصر عابدين.. التحفة التاريخية النادرة
يعد قصر عابدين، الواقع في منطقة عابدين بوسط القاهرة، إحدى التحف المعمارية النادرة، وظل مقرًّا للحكم منذ عام 1872 وحتى عام 1952. أمر الخديوي إسماعيل ببنائه فور تولّيه الحكم في مصر عام 1863، وسُمّي القصر بهذا الاسم نسبةً إلى عابدين بك، أحد القادة العسكريين في عهد محمد علي باشا، الذي كان يمتلك قصرًا صغيرًا في موقع القصر الحالي. وبعد وفاة عابدين بك، اشترى الخديوي إسماعيل القصر من أرملته، ثم هدمه وضم إليه أراضي واسعة، وشرع في تشييد القصر الجديد بطرازه الفريد.
يحتوي القصر على عشرات القاعات والصالونات التي تتميّز بألوان جدرانها المتنوعة، بين الأبيض والأحمر والأخضر، وتُستخدم هذه القاعات لاستقبال الوفود الرسمية أثناء زيارتها لمصر. كما يضم القصر مكتبة ضخمة تحوي نحو 55 ألف كتاب، إضافةً إلى مسرح مزوّد بمئات الكراسي المذهّبة، ويشمل أماكن مخصصة للسيدات معزولة بالستائر، ويُستخدم حاليًا للعروض المسرحية الخاصة بالزوار والضيوف.
علاوة على ذلك، يضم القصر عشرات الأجنحة الفندقية الفاخرة، أبرزها "الجناح البلجيكي"، الذي صُمّم خصيصًا لإقامة ضيوف مصر المهمين، وسُمّي بهذا الاسم لأن ملك بلجيكا كان أول من أقام فيه. كما يحتوي القصر على العديد من المتاحف التي تُعدّ كنوزًا تاريخية لا تُقدّر بثمن، حيث كان أبناء وأحفاد الخديوي إسماعيل، الذين حكموا مصر من بعده، مولعين بإضافة لمساتهم الخاصة على القصر، وفقًا لميولهم وعصورهم.
ومن أبرز المتاحف التي يضمها القصر: متحف الأوسمة والنياشين، متحف الأسلحة الذي يضم مجموعات نادرة من الأسلحة البيضاء من مختلف أنحاء العالم وعصورٍ مختلفة، وأشهرها سيف السلطان العثماني سليم الأول، متحف الفضيات المخصص لمقتنيات أسرة محمد علي باشا من أدوات وأوانٍ من الفضة والكريستال والبلور الملوّن، إلى جانب متحف الصيد.
في ثمانينيات القرن الماضي، قُدّرت القيمة السوقية لهذا القصر بنحو 120 مليون جنيه مصري، أي ما يعادل حاليًا عشرات الملايين من الدولارات، وهي قيمةٌ تتناسب مع ما يحتويه من كنوز تراثية ومقتنيات نادرة، فضلًا عن موقعه الاستراتيجي ومساحته الجغرافية الواسعة. وقد تحوّل القصر في الوقت الحالي إلى مَعلم سياحي مفتوح للزوار من المواطنين والأجانب.
قصر رأس التين.. أكبر قصور الإسكندرية
يُعد قصر رأس التين واحدًا من أقدم القصور في مصر، إذ يطل على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بمدينة الإسكندرية، ويمتد على مساحة 22 فدانًا. أمر محمد علي باشا ببنائه عام 1845م، واستعان في تشييده وإصلاحه بنخبة من أبرز المهندسين الأجانب في ذلك الوقت، وعلى رأسهم المهندس الفرنسي سيريزى بك.
يستمد القصر أهميته من كونه الوحيد الذي شهد نشأة أسرة محمد علي باشا في مصر، والتي استمر حكمها لنحو 150 عامًا، منذ تولي محمد علي السلطة وحتى خلع الملك فاروق في أعقاب حركة يوليو 1952، حيث غادر الأخير منه إلى منفاه في إيطاليا على متن اليخت الملكي المحروسة من ميناء رأس التين.
بُني القصر على الطراز الأوروبي، وكان في البداية مُصممًا على هيئة حصن، وسُمي بهذا الاسم نظرًا لكثرة أشجار التين التي كانت تحيط بالموقع. وظل القصر لسنوات طويلة واحدًا من أهم القصور الملكية، حيث كان يُستخدم كمقرٍّ صيفي للحكام الذين كانوا ينتقلون إليه سنويًا خلال فصل الصيف.
في عهد الملك فؤاد الأول (سلطان مصر من 1917 إلى 1922)، خضع القصر لعملية تطوير شاملة تماشيًا مع متطلبات العصر، حيث استعان الملك بالمهندس الإيطالي فيروتشي، بالإضافة إلى المهندس المصري حسن باشا العدوي، لإعادة بنائه، وبلغت تكلفة الترميم آنذاك 400 ألف جنيه مصري. ورغم أن القصر أعيد بناؤه ليشابه قصر عابدين، إلا أنه كان أصغر منه مساحة.
يضم القصر عشرات الأجنحة والغرف الفندقية الفاخرة، إضافةً إلى صالون الحرملك الفخم، وأجنحة خاصة بالخدم والحاشية. كما يحتوي على القاعة المستديرة، التي شهدت توقيع الملك فاروق وثيقة تنازله عن العرش. ويضم القبو الصالة المستديرة الثالثة، التي تؤدي إلى السلم الموصل إلى مرسى الباخرة المحروسة، التي غادر عبرها الملك فاروق متجهًا إلى إيطاليا. وإلى جوار القصر، تقع محطة السكك الحديدية الخاصة، التي كانت تمتد إلى داخله، وكانت مخصصة لتنقلات الملك فاروق.
قصر القبة.. أكبر القصور المصرية
يُعتبر قصر القبة، الواقع في وسط القاهرة، أكبر القصور في مصر من حيث المساحة، إذ يمتد على نحو 190 فدانًا. أشرف على بنائه الخديوي إسماعيل، واستغرق تشييده خمس سنوات (1867 - 1872)، وافتُتح رسميًّا في كانون الثاني/يناير عام 1873 خلال حفل زفاف الأمير محمد توفيق، ولي عهد الخديوي إسماعيل، ومنذ ذلك الحين ارتبط القصر بحفلات الزفاف والأفراح الأسطورية للعائلة الملكية.
في عام 1925، اتخذه الملك فؤاد الأول مقرًا لإقامته، وشهد العديد من الأحداث البارزة، من بينها زواج الملك فاروق من الملكة فريدة في كانون الثاني/يناير عام 1938، كما شُيِّعت منه جنازة الملك فؤاد عام 1936. كذلك، شهد القصر أول خطاب مسجَّل للإذاعة المصرية ألقاه الملك فاروق يوم 8 أيار/مايو من العام نفسه، عقب عودته من إنجلترا بعد وفاة والده.
وبعد ثورة يوليو 1952، تحول القصر إلى أحد قصور رئاسة الجمهورية، إلى جانب قصر عابدين وقصر رأس التين، وكان مقرًا لاستقبال كبار الزوار خلال فترة حكم جمال عبد الناصر. يتميز القصر بموقعه الاستراتيجي الهام، كما يضم حدائق شاسعة تحتوي على مجموعة نادرة من الأشجار والنباتات التي تعود إلى عهد الخديوي إسماعيل. يقع القصر على بعد عدة كيلومترات شمال وسط القاهرة، ويمتد من محطة مترو سراي القبة حتى محطة كوبري القبة.
قصر الطاهرة.. غرفة عمليات حرب 1973
بُني قصر الطاهرة في منطقة روكسي بوسط القاهرة في أوائل القرن العشرين ليكون مقرًا لإقامة الأميرة أمينة عزيزة، ابنة الخديوي إسماعيل ووالدة محمد طاهر باشا. قام بتصميمه المعماري الإيطالي الشهير أنطونيو لاشياك، وجاء على الطراز الإيطالي، حيث السلالم الرخامية والسقوف المكسوة بالمرمر الرائع.
ورغم صغر المساحة التي شُيّد عليها القصر مقارنة ببقية القصور الملكية، فإنه يُعد من النماذج الفريدة في التصميم والديكور، حيث يحيط به حديقة بديعة جعلته أشبه بلوحة فنية متكاملة، يتناغم فيها الأثاث الداخلي مع الطبيعة الخلابة خارج القصر. وخلال الحرب العالمية الثانية، أصبح مقر إقامة مؤقتًا لعدد من أفراد العائلة المالكة المصرية.
واشتهر القصر لاحقًا كمقر إقامة واستراحة للملك سعود بن عبد العزيز، نظرًا لما يتمتع به من إمكانات ووسائل راحة، حيث استضافه القصر خلال العهد الملكي، ثم أقام فيه مرة أخرى بعد تركه الحكم. كما شهد القصر في آذار/مارس 1954 جلسات تقريب وجهات النظر بين الرئيسين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب.
وخلال حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، تحوّل القصر إلى غرفة عمليات سرية للقيادة المصرية، العسكرية والسياسية، لمتابعة مجريات الحرب، ومن داخله أصدر الرئيس أنور السادات قراره الشهير بعبور قناة السويس. وفي عام 1980، أصبح القصر مقر إقامة مؤقتًا لأرملة شاه إيران، فرح ديبا، قبل أن تتدهور حالته بشكل دفعها إلى مغادرته والبحث عن مكان آخر، إلى أن استقر بها الحال في فرنسا.
35 قصرًا ملكيًا في مستنقع الإهمال
بجانب تلك القصور الرئاسية الخمسة، التي تعاني معظمها من الإهمال وعدم الاستغلال الأمثل، هناك قرابة 35 قصرًا ملكيًا آخر تعود إلى عصور مختلفة، لكنها غارقة في مستنقع الإهمال، وتسكنها الخفافيش، رغم ما تتميز به من طراز معماري فريد وقيمة تراثية لو كانت موجودة في أي دولة أخرى لاعتُبرت من الكنوز الوطنية المقدسة.
ومن أبرز هذه القصور، قصر محمد علي باشا في منطقة المنيل، الذي بُني على مساحة 50 فدانًا عام 1808، ويُعد تحفة معمارية نادرة، إذ يجمع بين طرز إسلامية متنوعة، منها الفاطمي والمملوكي والعثماني والأندلسي والفارسي والشامي. يضم القصر ثلاث سرايات: سراي الإقامة، وسراي الاستقبال، وسراي العرش، ويُستخدم حاليًا كمتحف مفتوح للزائرين.
كما تضم قائمة القصور المهملة قصر المانسترلي، وقصر البارون، وقصر الأبلق، وقصر الأمير طاز، وقصر الأمير بشتاك، وقصر ألكسان باشا، وقصر الأمير يوسف كمال، وقصر صاروفيم باشا، وقصر الأميرة عزيزة فهمي، وقصر السلاملك، وسراي الحقانية، وقصر الأميرة شويكار، وقصر شامبليون، وغيرها من القصور التي لو وُضعت تحت مجهر الاهتمام لغيّرت صورة مصر عالميًا، وحوّلتها إلى وجهة مفضلة لكبار المسؤولين وحكومات العالم، لما تتمتع به هذه القصور من قيمة تاريخية نادرة وفريدة.
في أيار/مايو 2011، كتب الصحفي دندراوي الهواري مقالًا في صحيفة "اليوم السابع" المصرية، أكد فيه أن التوسع في بناء قصور رئاسية جديدة يُعد إهدارًا للمال العام، مشيرًا إلى أن الرئيس الراحل حسني مبارك كان يقيم في قصر العروبة فقط، بينما كانت بقية القصور الأخرى مهجورة، تسكنها الخفافيش والفئران، على حد تعبيره.
وطالب دندراوي، إلى جانب العديد من المحللين والكتاب، بضرورة استغلال القصور الرئاسية والملكية الموجودة في مصر الاستغلال الأمثل، بما يعود بالنفع على الاقتصاد المصري، الذي يعاني من تباطؤ شديد. وأكدوا أنه ليس من الحكمة أن تمتلك دولة تعاني اقتصاديًا هذا العدد الهائل من القصور الفخمة، ثم تستمر في بناء قصور جديدة، في حين أن الأولى هو تطوير القصور القائمة واستثمارها كما تفعل الدول الأخرى التي تمتلك معالم أثرية مشابهة.
ويستند أنصار هذا الرأي إلى موقف الصحفي المصري الراحل مصطفى أمين، المقرب من الرئيس أنور السادات، والذي اقترح في مقال كتبه عام 1982 بيع أحد القصور الرئاسية المنتشرة في أنحاء مصر لسداد جزء من ديونها الخارجية آنذاك. وفي حال تعذر بيع هذه القصور باعتبارها كنوزًا وطنية، دعا إلى تطويرها وتحويلها إلى مزارات سياحية مفتوحة للأجانب والمصريين، أو استغلالها كمنتجعات فندقية تدر دخلًا على خزينة الدولة، مع الحفاظ عليها كمواقع أثرية تحت إشراف الجهات المختصة.