14-يناير-2017

سونيا براغا خلال أحد مشاهد فيلم "أكواريس"

كيف لامرأة أن تكون مدينة بحالها؟ هذا ما فعلته سونيا براجا الممثلة البرازيلية الستينية خلال أداء دور كلارا، وكأنها إيزابيل أوبير الفرنسية التي بات يُضرب بها المثل خلال السنوات الأخيرة لأدائها أدوارًا نسائية إشكالية بكل جدارة. وعلى ذات القدر من الحكمة والضراوة تقود براجيا رحلة الدفاع عن ذكرياتها وتاريخها في دفاع مبطن عن تاريخ مدينة كاملة.

كيف لامرأة أن تكون مدينة بحالها؟.. هذا ما فعلته سونيا براجا الممثلة البرازيلية الستينية خلال أداء دور كلارا في فيلم "أكواريوس"

وهذا ما جرى طوال ساعتين من الفيلم البرازيلي "إكواريوس" للمخرج كليبر فيلو، الفيلم الذي لقى إعجاب الكثير من السنيفيليين ومحبيّ أفلام أمريكا الجنوبية.

كلارا الصحفية والناقدة الموسيقية وآخر من تبقى من سكان مبنى أكواريوس، وهي أم لولدين ومسؤولة عن استمرار حياتها. تطول قائمة الأدوار الاجتماعية أمام مهمات كلارا لتصل بها الضرورة الاجتماعية لخوض حرب كانت لتكون فيها طرف خاسر لولا الثقة بالنفس. الأمر الذي أخذته براجيا على محمل الجد لتحمل عبء شخصية كلارا التي يحفل تاريخها بصراعات مماثلة كالتي تحصل الآن وتُفرض عليها في مدينة ريسيفي الواقعة على إحدى الشواطئ شمال شرق البرازيل.

بدأت تلك الصراعات في الماضي مع مرض السرطان الذي انتهى من حياتها باستئصال أحد ثدييها، ورغم ذلك بقيت امرأة بلا نواقص أو عوائق تؤرق عيشها، وحيدة مع موسيقاها وزيارات الأولاد المتقطعة، تملأ كلارا فراغها بالنزول إلى الشاطئ والحديث مع الأصدقاء وبعض الوقت مع ربة منزل حنون. كل ذلك يفسر قوة امرأة أصرت أن تحفظ نعمة الحياة الموهوبة لها، إلى أن طرقت بابها ذات يوم شركة استثمار وعرضت عليها شراء البيت مقابل مبلغ كبير. هي واحدة من شركات كثر تعمل على تغيير شكل المدينة بزرع تلك الأبنية الشاقولية الفارعة، والتي يبدو معها شكل المدينة كمتربول متغول يتحول تباعًا.

اقرأ/ي أيضًا: ميازاكي..أرواح الأطفال وريث لذاكرة الأجيال

وما المدن إلاّ أشخاص

يحتفي كليبر فيلو بالشخوص والمدن كمرادفين متلازمين للحياة، فكيف لهذه المرأة أن تقف بوجه إرادة التغيير؟

من خلال عدة تفاصيل بناها كليبر فيلو عبر تاريخه السينمائي الوثائقي حول مدينة ريسيفي هذه المدينة التي تعتبر إحدى الوجهات السياحية العالمية وثاني أهم مدن البرازيل، وبسبب تغييرات تضرب أعماقها مع مرور الزمن، يشبهها المخرج بشرارات تبدو أقوى من الانفجار في فيلمه "ضجيج ريسيفي" 2012 الذي يجوب بعض بيوت أهل حي غير طابقي ما زال أهله يعيشون فيه رغم الخوف من السرقة والنهب والخوف الكبير من الآخر والتحول الذي سيأتي يومًا ما وينهي حال أهل الحي البسيط. في محاولة لرثاء تاريخ المدينة الذي تستعيده إحدى الشخصيات خلال جولة تأخذ طابع التوثيقي داخل الفيلم الروائي، دار سينما مهجورة وأبنية تاريخية متهالكة وغيرها من معالم طبيعية تُمحى وتندثر أمام الأبنية الشاهقة في مشاهد أخرى من الفيلم مكرسة لإظهار ناطحات السحاب تغطي سماء المدينة التي بات الإجرام يملأها.

اقرأ/ي أيضًا: كوروساوا... شكسبير السينما اليابانية (1- 5)

فكيف لكلارا أن تقف بوجه ضجيج مماثل؟

يبدو الدفاع عن الحق بالبقاء كسلوك فردي عند شخصيات يصنعها كليبر فيلو لا يخبو عندها أمل ما في بلد يتغير كل مافيه على وقع عجلة الفقر التي تدور فوقه مسرعةً، يحتاج ذلك الدفاع إلى الصبر، وهذه هي إحدى مشاكل العصر التي تقف بوجه حق سكان المدن التي يفرض شكل سياحي عليها، وعلى من بقي فيها أن يتعايش ضمن هذا الشكل رغم كل الفروقات. فيبدو التاريخ والحاضر مهددًا أمام شكل التغول هذا.

تبدو كلارا وكأنها مدينة قائمة بذاتها، ترسم تفاصيل نضالها على ذوقها رغم الضغط الذي يمارسه عليها الجميع من الأولاد والأصدقاء وشركة الاستثمار عينها، وكأن مبنى أكواريوس آخر أنفاس المدينة الذي تحارب من خلاله لتبقى حاضرة وثابتة.

تبدو كلارا في فيلم "أكواريوس" وكأنها مدينة قائمة بذاتها، ترسم تفاصيل نضالها على ذوقها رغم الضغط الذي يمارسه عليها الجميع

صور بالأبيض والأسود للمدينة القديمة قبل أن تُخدش أصالتها، تليها مشاهد قبل بداية القول -هكذا يمكن تسميتها- يستذكر من خلالها المخرج لحظات من حياة عائلة كلارا. هي استحضار لتقاليد عائلية تستلزم احترام ومحبة الكبير وذكرياته، وبكل مفردات الأصيل تتحرك الكاميرا في المكان لتبدو وكأنها ترسم اللحظات الأولى لتكوين المنزل والشارع وطبيعة الاحتفال المنشود.

تلتقط الكاميرا بعض الانطباعات التي ستحمل روح الماضي لاحقًا، الكثير من الأغراض يتشكل منها، البيت وفناؤه، كالخزانة القديمة وبعض الصور المعلقة والبوسترات إلى جانب مكتبة الموسيقى الخاصة بكلارا كل ذلك لا يكتمل دون الجرامافون وأجواء النقاء التي تضفيها على البيت بألوانه الدافئة التي غلب عليها اللون الأبيض الممدد على الجدران والأغراض والملابس يصل إلى طريقة التصرف وردة الفعل.

جاء عرض فيلم أكواريوس ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان كان عام 2016 مرافقًا لمظاهرة رفعت فيها الشعارات واللافتات الاحتجاجية على السجادة الحمراء، وعبر فريق الفيلم عن رفضه لإقالة رئيسة البرازيل ونددوا بإغلاق وزارة الثقافة وأمور أخرى كتهميش المرأة والثقافة والحريات في بلد يعاني من الفقر والبطالة.

اقرأ/ي أيضًا: 

فيلم "أهلًا بكم في هارتمان".. حرب على التنميط

فيلم "مولانا".. دعاية أم هداية؟