27-أكتوبر-2021

آلا ن دو بوتون

يطرح زوربا على رئيسه المثقف بعضًا من أسئلة الوجود الكبرى: من أين أتينا؟ وإلى أين نذهب؟ ولم كل هذا؟ يقول له: أنت تقرأ الكثير من الكتب، فماذا تقول لك كتبك؟

يجيب الرئيس متلعثمًا: إنها لا تقول أشياء محددة.. لا تقدم إجابات حاسمة.

زوربا: إذًا فإلى الجحيم أنت وكتبك.

من بين جميع الكتب، فإن كتب الفلسفة هي المعنية أكثر بصرخة الاحتجاج هذه، فهي التي تتصدى للأسئلة الوجودية المؤرقة. تقول لنا أشياء كثيرة، وتقودنا إلى طرق متشعبة، وتدخلنا في متاهات مدوخة، ثم لا تجعلنا نرسو على أي يقين.. فلم الفلسفة إذًا؟

يقول آلان دو بوتون إن الفلسفة تقدم لنا العزاء. تواسينا وتعطينا دروسًا عملية صالحة للاستلهام وقابلة للتكرار

يقول آلان دو بوتون إنها تقدم لنا العزاء. تواسينا وتعطينا دروسًا عملية صالحة للاستلهام وقابلة للتكرار. وفي كتابه "عزاءات الفلسفة"، (دار التنوير 2016، ترجمة يزن الحاج)، يستعرض بوتون ستة عزاءات، ستة نماذج تقوم فيها الفلسفة بمواساتنا وبتقديم نصائح ثمينة ملهمة.

اقرأ/ي أيضًا: آلان دو بوتون في "قلق السعي إلى المكانة": كن مستقلًا وحسب

أولًا ـ العزاء بشأن مخالفة الآراء السائدة: فثمة طغيان يعيش معظمنا في ظله، ألا وهو طغيان الرأي السائد في المجتمع، ونحن ننصاع غالبًا ليس بدافع الخوف من سخط الآخرين وازدرائهم وحسب، بل أيضًا بسبب (صوت داخلي) يهمس لنا بأن "ليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء على خطأ فيما أنا وحدي على صواب". وهكذا نقمع شكوكنا ونسكت هواجسنا، ونجامل الأفكار السائدة من غير إيمان حقيقي، وندعي تصديق حقائق نعرف في أعماقنا أنها مجرد خرافات، بل ونضحك على نكات نشمئز من غبائها وابتذالها.. كل هذا كي نمتثل للجموع، كي نكون أفرادًا نموذجيين في القطيع.

ولكن هناك رجلًا، عاش منذ ألفين وأربعمئة عام، فعل عكس ذلك تمامًا، مقدمًا نموذجًا فريدًا لشجاعة الرأي الفردي في مواجهة المجتمع. لقد آمن سقراط بأن كثيرًا من آراء أثينا الراسخة هي آراء فاسدة، شرعنها النقل عن السلف وسلف السلف، دون أن يمنحها العقل سندًا أو تبريرًا، ولقد آل الحكيم على نفسه أن يزن كل الأفكار في ميزان العقل، وأن يعرضها لتجربة الشك القاسية، فما نجا منها كتبت له الحياة والسيادة، وما سقط فليذهب إلى مجاهل النسيان. جال في الشوارع، وتحدث إلى الكبار والصغار، وأخضع الجميع إلى حواراته الصارمة المحكمة، فنجح في هز المسلمات العتيقة وفي إيقاظ بعض العقول النائمة، مبلبلًا أوساط الأدعياء وسدنة "الحقائق" المستقرة، ومثيرًا الحنق في نفوس أولي الأمر الذين نجحوا في تحريض العامة عليه، وكانت النتيجة أن قضت محكمة أثينا بموته مسمومًا. كان بإمكانه الإقلات من تجرع السم بأن يعتذر ويتراجع عن مذهبه، ويعيد الاعتبار والهيبة لآراء أثينا، لكنه آثر أن يمضي بتجربته وأن يصل بالدرس إلى نهايته.

وينبهنا بوتون أن لا نستنتج الدرس الخطأ من تجربة سقراط، فالدافع الصبياني للوقوف في وجه المجتمع من أجل الإحساس البطولي الفارغ، لم يكن من بين دوافع الحكيم الأثيني. وعلينا ألا نعتقد أننا على صواب لمجرد وقوفنا ضد المجموع، ذلك أن الأكثرية يمكن أن تكون على حق أحيانًا.

ينقذنا سقراط من وهمين: أن ننصت دومًا، أو أن لا ننصت أبدًا، إلى إملاءات الرأي السائد، و"لكي نحذو حذوه، سنفوز حتمًا لو سعينا ـ بدلًا من هذا ـ إلى الإنصات دومًا إلى إملاءات العقل".

ثانيًا ـ العزاء بشأن الافتقار إلى المال: وهنا يحضر الفيلسوف أبيقور (341 ـ 270 ق . م) ليقدم درسه، ولكن لماذا أبيقور؟ أليس هو الفيلسوف المتعوي والذي قال مرة إن "اللذة هي منطلق وغاية الحياة السعيدة"؟ ألم يعرف عنه نهمه في الأكل وإفراطه في الشراب وتفضيله البيوت الواسعة الفخمة ذات الحدائق الغناء؟ كيف لمثله إذًا أن يقدم العزاء لأولئك الذين يفتقرون إلى المال؟

ثمة طغيان يعيش معظمنا في ظله، ألا وهو طغيان الرأي السائد في المجتمع، ونحن ننصاع غالبًا ليس بدافع الخوف من سخط الآخرين وازدرائهم وحسب

يقول دو بوتون إن أبيقور كان ضحية لسوء فهم ولتشويه سمعة متعمد، ولحسن الحظ فإن نصوصًا تاريخية عديدة تتكفل بتصحيح الصورة.

اقرأ/ي أيضًا: التاريخ الدموي للسعادة.. الأوتوبيا الأقسى

قسم أبيقور الرغبات إلى ثلاثة أصناف، فبعضها طبيعي ولازم، وبعضها الآخر طبيعي وغير لازم، وثالثًا هناك رغبات ليست طبيعية وليست لازمة. وواضح أن الصنف الأول هو الذي يضم أشياء جوهرية من أجل حياة سعيدة: الطعام والملجأ والملابس. ولننتبه إلى أنه لم يتحدث عن موائد عامرة وأصناف فاخرة، فيكفي أن يكون الطعام صحيًا ومستساغًا، أما الملجأ / البيت فيلزم فقط أن يكون بسيطًا ونظيفًا يؤمن شيئًا من الراحة في برد الشتاء وفي حر الصيف.. وكذلك فلا تحتاج الحياة السعيدة إلى ثياب حريرية مزركشة ومرصعة باهظة الثمن، يكفي أن تكون نظيفة وأنيقة تؤمن المظهر الحسن.. ولكن اللافت أكثر هو أن العناصر الأساسية الأخرى في هذه اللائحة هي أشياء غير مادية، إنها أشياء سيكيولوجية ومعنوية ولا تحتاج إلى المال أصلًا: الأصدقاء، الحرية، القدرة على التفكير.

وبالطبع فإن عناصر الصنفين الآخرين لا تشكل شروطًا ضرورية من أجل الحياة السعيدة، بل أن الصنف الثالث (غير الطبيعي وغير اللازم) يضم أشياء قد تلعب دورًا معاكسًا فتفسد الحياة وتحبط السعي إلى السعادة (السلطة، أو الشهرة مثلًا).

وما الجديد في هذا؟ إنه كلام مكرور ابتذلته ألسن الوعاظ منذ آلاف السنين، فأين العزاء الناجع هنا؟

لم يكتف أبيقور بالتنظير، لم يكن واعظًا يوزع النصائح السمجة والكليشات الفارغة. لقد دلل بسلوكه على صدق فلسفته، فعاش حياته وفق مذهبه تمامًا. امتلك بيتًا بسيطًا وحظي بأصدقاء أذكياء وأصر على التفكير الحر المدقق، وكان (عكس ما يشاع) معتدلًا في مأكله وشرابه وملبسه، ولم يمتلك من النقود إلا ما يحتاجه العيش البسيط المكتفي.. ويشهد معاصرون له أنه اختبر، برفقة أصدقائه ومريديه، حياة سعيدة وهانئة.

أما العزاءات الأربعة المتبقية فهي: العزاء بشأن الإحباط، العزاء بشأن العجز، العزاء بشأن انكسارات القلب، العزاء بشأن المصاعب. وفيها يحضر على التوالي كل من: سينيكا، مونتين، شوبنهاور، نيتشه.

الفلسفة ليست ميتافيزيقيا وحسب، وليست كلامًا معلقًا فوق الأرض، إنها رفيق موثوق يحمل في جعبته الكثير من الأفكار والاقتراحات والعزاءات العصية على التقادم

اقرأ/ي أيضًا: عزاءات العقل إزاء فداحة الواقع المعاش

وكما في المحورين السابقين، فإن المؤلف هنا يسعى إلى إثبات فكرة أساسية، وهي أن الفلسفة ليست ميتافيزيقيا وحسب، وليست كلامًا معلقًا فوق الأرض، إنها رفيق موثوق يحمل في جعبته الكثير من الأفكار والاقتراحات والعزاءات العصية على التقادم. وعلى حد تعبير جريدة الإندبندنت البريطانية، فإن "بوتون أخذ الفلسفة إلى هدفها الأبسط والأهم: مساعدتنا في عيش حيواتنا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

عوسج جان غريش المُلتهب.. ابتكار علمي لأنوار العقل في فلسفة الدين

لاوتزو.. فلسفة اللافعل