نُشِرَت المجموعة القصصية "أطفال غسان كنفاني" أول مرة سنة 1975 بعد اغتيال غسان بثلاث سنوات. أعادت دار المدى طباعتها عام 2002، ثم في طبعة خاصة توزّع مجانًا مع جريدة القاهرة. (وهي ست قصص موجودة في أعمال أخرى لكنفاني، لكن تم جمعها في هذا الكتاب).
في كثيرٍ من عناوين كنفاني الفرعية تحضر كلمة "الصغير" في إحالة إلى عالم الطفولة كاملًا. ومع ذلك فإنّ ما يتبع الكلمة (الصغير) ينفي ما هو طبيعيٌّ في الطفولة، في التصوّر الذهني "العام" عمّا يجب أن تكون الطفولة عليه.
فـ"الصغير يستعير مرتينة خاله" و"الصغير يذهب إلى المخيم" تقريرٌ يمهّد لعنوان قصة أخرى: "كان يومذاك طفلًا". متى؟ قبل أن يستعير مرتينة خاله، قبل أن يذهب إلى المخيّم.
فيما بعد، أضيفَت "القنديل الصغير" إلى القصص الست. وهي القصة الوحيدة التي يمكن القول إنها قصة للأطفال لا عنهم، ومُهداة إلى لميس التي استشهدت مع غسان، وهي القصة الوحيدة المضبوطة في حروف كلماتها، ما يعني أنّ غسان يوجّهها إلى الأطفال مباشرةً، وملخص القصة أنّ فتاةً أميرة ستصبح ملكة بعد موت أبيها الملك، تحاول تحقيق وصية أبيها بإحضار الشمس إلى القصر، وبعد محاولات طفولية عديدة، وتدخّل عبرَ الصدفة من غسان نفسه، يهديها إلى الحل: حطّمي أسوار القصر ليدخل حملة القناديل فيشكّلوا في الساحة ما يشبه قرص الشمس.
يواجه 90% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و 23 شهرًا فقرًا غذائيًا حادًا، ونحو 90% من الأطفال دون سن الخامسة مصابون بواحد أو أكثر من الأمراض المعدية
من بعيد، يبدو حلّ غسان هذا موجهًا لا للطفلة الصغيرة التي سوف تصبح ملكة فحسب، بل لعالَم الكبار. ويمكن اعتباره حلًا أيضًا لكاليغولا الذي أراد له ألبير كامو في مسرحية تحمل اسمه أن يُحضر القمر، وفي سبيل ذلك يقتل ويدمّر ويفتك.
ثمة تقرير صغير لأنطوان دو سانت إكزوبيري صاحب "الأمير الصغير" يقول: "يا له من منفى مضحك أن يتم نفيك خارج الطفولة". أدرك غسان، الذي هُجِّر وعمره 12 سنة من بلده (قضى مثلها في بيروت بما يسمّونه النقاد: زمن الكتابة الكاملة)، أنّ النفي من الطفولة هو أشدّ أنواع المنافي قسوة. من أجل ذلك كتب "القنديل الصغير"، من أجل لميس. لكنّ الطفلة أيضًا، كانت يومذاك طفلة، واستشهدت مع خالها حين استشهد بتفخيخ سيارته.
هل "كان" فعلًا؟
على أنّ التصريح "كان يومذاك طفلًا" يوحي بأنّ الطفل قد عاش طفولةً طبيعيّة في زمنٍ ما، حتى حدث انزياحٌ ما، فنقله من طور الطفولة إلى طور الرجولة. حتى يوم الرابع من نيسان لهذه السنة، أي ما يُطلق عليه العالَم "يوم الطفل الفلسطيني"، كانت محركات البحث تعرض النتائج التالية عند البحث فيها عن "الطفل الفلسطيني":
- تحوّل لـ"هيكل عظمي".. طفل فلسطيني يصبح "وجهًا للمجاعة في غزة". (اسم هذا الطفل يزن كفارنة، وعمره 10 سنوات، واسمه فادي الزنط، وعشرات الآلاف من أطفال غزة).
- طفل من غزة يعرض ألعابه للبيع: "لم أعد أجد مكانًا للعب"، (واسم هذا الطفل نور الدين).
- طفلة تبيع الكركديه لمساعدة عائلتها، (واسم هذه الطفلة صفاء).
- طفل يبيع الشاي والقهوة بين خيم النازحين، (واسمه فراس).
ثمة نتائج أخرى يعرضها "غوغل" تحمل عناوين مثل:
- عام 2023 الأكثر دموية على الأطفال الفلسطينيين.
- يوم الطفل الفلسطيني: موت معلن بيد "إسرائيل".
- الحركة العالمية: 2023 عام الإبادة الجماعية بحق الأطفال الفلسطينيين.
ما الحقوق الأساسية التي يعيّنها العالَم كحقوقٍ للأطفال؟ الحياة أولًا، الأمان، التعليم، اللعب، الصحة والغذاء؟
1: في العام 2004، أعلن ضابط إسرائيلي أنه غير نادم على قتل الطفلة إيمان الهمص (13 عامًا)، بإطلاق 20 رصاصة على جسدها. وقال في مقابلة مع صحيفة "معاريف" إنّ الزمن لو عاد به إلى الوراء، لما تردّد في قتلها مرة أخرى ولو كان عمرها 3 سنوات فحسب. خلصت المحكمة إلى توقيف الضابط شهرين عن العمل، لكن الاستئناف برّأه ومنحه تعويضًا بقيمة 80 ألف شيكل.
2: كتب غسان كنفاني في قصته "كعك على الرصيف" من مجموعته "موت سرير رقم 12" عن الطفل حميد (11 سنة)، والذي ربّما درّسه فعلًا في إحدى مدارس اللاجئين الفلسطينيين في دمشق. وحميد يسكن في المخيم مع أمه، اشتغل ماسح أحذية ثم صار يبيع الكعك أمام دور السينما في الليل، ودار بينه وبين كنفاني حوار:
- أنت الذي تصرف على عائلتك إذًا؟
- نعم، لأن أمي تكسب قليلًا من تنظيف مخازن وكالة الغوث. إنني أشتري كل 3 كعكات بــ10 قروش وأبيع الكعكة الواحدة بـ5.
ويتضح بعد ذلك أنه يعيش مع أبيه، ويكذب إذ يقول إنه يعيش مع أمه بناءً على أوامر أبيه (وقد جن) الذي لم يكن يملك أجرة دفنها. (لابد من الإشارة إلى الحق بـ "الدفن" أيضًا).
3: في المدخل الذي وضعه كنفاني لكتابه "عن الرجال والبنادق"، كتب: "عام 1949 قالوا لنا يومئذ: الصليب الأحمر سيوزّع عليكم هدايا العيد. كنت طفلًا. كان أقسى شتاء شهدته المنطقة في عمرها. جلست على الرصيف وأخذت أبكي. ثم أكملت مشواري إلى مركز الصليب الأحمر راكضًا، ووقفت مع مئات الأطفال ننتظر دورنا، وبعد مليون سنة جاء دوري. الآن، بعد 19 سنة، لست أذكر على الإطلاق ما كان يوجد في تلك العلبة الحلم، إلا شيئًا واحدًا، شيئًا واحدًا فقط: علبة حساء من مسحوق العدس. تمسّكت بعلبة الحساء بكلتا يدي المحمرتين من البرد، وضممتها إلى صدري أمام 10 أطفال، أخذوا ينظرون إليها بعشرين عين مفتوحة على سعتها".
4: يواجه 90% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و 23 شهرًا فقرًا غذائيًا حادًا، ونحو 90% من الأطفال دون سن الخامسة مصابون بواحد أو أكثر من الأمراض المعدية.
الزمن الغزّي: مِن.. إلى
في أسطورة أوديب الإغريقية، وفي معالجة المؤلف المسرحي سوفوكليس لها، يصوغ وحش الاسفنكس sphinx لغزه أمام أوديب كي يصيبه بالعجز. الحكاية تقول إنّ العاجز عن الإجابة عن سؤال الوحش يموت، أما الذي يجيب عنه يمكنه أن يدخل إلى المدينة ويُقتل الوحش بسبب الإجابة. أوديب وحده الذي يستطيع الدخول.
اللغز يقول: ما هو الكائن الذي يمشي أحيانًا على قدمين، وأحيانًا أخرى على أربع، وأحيانًا ثالثة على ثلاث؟ يحلّ أوديب اللغز هكذا: هذا الكائن هو الإنسان، فهو حين يكون طفلًا فإنه يمشي على أربع، ولما يشتدّ عوده يمشي على قدمين، وحين يصبح شيخًا فإنه يمشي على ثلاث.
يقول بعض الباحثين إنّ في هذه الحكاية انتقالًا لأوديب من طور الطفولة إلى طور الرجولة. وإنه بدل الأزمنة البدائية التي كانت تفرض نوعًا "همجيًا" من طقوس الانتقال، ها هنا طقسٌ آخر معرفيّ، يتمثّل في الإجابة على لغز.
يقول محمود درويش في يوميات الحزن العادي "صمت من أجل غزة": "لأنّ الزمن في غزة شيءٌ آخر. لأنّ الزمن في غزة ليس عنصرًا محايدًا، إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل. ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة. الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة ولكنه يجعلهم رجالًا في أول لقاء مع العدو".
الانتقال الغزّي من الطفولة إلى ما بعدها يكون إذن في "أول لقاء مع العدو". والعدو وحش، مثله مثل الاسفنكس، ولكنه لا يحمل لغزًا، بل يجيء على دبابة، وطائرة، ومدججًا بالسلاح، يجيء بمجزرة، بإبادة.
الانتقال ليس معرفيًا، بل عن طريق التنكيل، والغضب، والعبث بالجسد الإنساني، وفي أحيانٍ أخرى كثيرة عن طريق الاستشهاد.
بكلمات مي الجيوسي: "يتقدم الفرد متطوعًا بتكريس جسده لهدفٍ مقدّس".
في بيئة مُحتلَّة، وقد تسرّب الموت بمجانيّته، أو: القتل المجاني، إلى ثقافتها وصار من مخزونها وموروثها، والجسد فيها معرّض للتعذيب والانتهاك في أيّة لحظة. يصير هذا التعرّض ومحاولات تطويع الجسد، شبيهة بما كان يحدث أثناء مراحل الانتقال في المجتمعات الأولى. إنّ الضرب، والاعتقال، والتعنيف، وجملة الانتهاكات التي تخدش الجسد الفلسطيني، من قبل الاحتلال، يصير هذا كلّه طقوسًا للانتقال من الطفولة إلى الرجولة. إنه تأهيلٌ للجسد، وتحضيره للفرديّ الكامن فيه، الذي يريد تغيير موازبن القوى. يعتقد الاحتلال أنه بذلك يُخضع الجسد، ويطوّعه، إلا أنه على العكس، يعطيه طقوس انتقاله من الطفولة إلى الرجولة، لا للشباب خاصّة، بل للمجتمع الفلسطيني بعموميّته.
في #غزة، تقتل "إسرائيل" طفلًا كلّ ساعة.
منذ بداية الحرب فقد أكثر من 14500 طفل حياتهم في غزة. تقول #أونروا إن من نجا من الأطفال أُصيب بندوب جسدية ونفسية.@palestineultra pic.twitter.com/wNSJKsvyNd
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) December 24, 2024
أما على مستوى ثانٍ، مستوى الميتافيزيقيا والأفكار المجرّدة، التي تصبّ في المعاني الفلسطينية، فإنّ الجسد الفلسطيني، الذي يتأهّل في مرحلةٍ ما للفرديّ الكامل، يحاول أن يستمد فاعليّته، حتى على حساب نفيه أو فنائه، في الواقع المُعاش. إنه متيقّن من كونه مُجدٍ، ويريد أن يبعث بهذه الجدوى إلى الأجساد الأخرى، فيحاول أن يعبر، على حساب فقدان جسده، إلى "الحقيقيّ". يمرّ، عبر طقوسٍ ورمزية، إلى واقعه الخاص، أو جملة آماله: حيث تنتهي مأساة عذابات الجسد، ويبدأ "الفردوس"/ "الجنة المفقودة".
فضول طفل أم قدر رجل؟
نعود إلى غسان، لأنّ العودة إليه تعني العودة إلى الطفل والرجل معًا. وكان قد وقف على الاثنين معًا في قصة أو مقالة نادرة كتبها في بيروت سنة النكسة، 1967 عنوانها أيضًا: "فضول طفل أم قدر رجل".
"لم أكن أحس شيئًا، كنت ما أزال أنزلق دونما وعي فوق براءة الطفولة، ولكنني تعمدت تلك اللحظة بمشهدٍ لن أنساه: كانت الشاحنات قد وقفت، وتسللت بدافعٍ من فضول الطفل، أو قدر الرجل، إلى حيث كان الرجال يقفون، وقد رأيتهم يسلّمون أسلحتهم في مخافر الحدود، ليدخلوا إلى عالم اللجوء بأكفهم العارية.. لا تصدّق أنّ الإنسان ينمو. لا، إنه يولد فجأة: كلمة ما، في لحظة، تشق صدره على نبضٍ جديد، مشهد واحد يطوح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق".
يولَد الرجل الفلسطيني من الطفل الذي شاهَد إذن. وفي بداية ملحمة جلجامش يجيء: "هو الذي رأى كلَّ شيء". ومن جملة ما رأى جلجامش كانت الأحلام، رسائله التنبيهية، شاشاته الرادارية التي تستشرف له مستقبله.
ومن جملة ما رأى الفلسطينيّ، كان ما رآه قبل أن يولَد. يصبح هنا ادّعاء دالي أنه يتذكّر ما كانه وهو في بطن أمه، بل وقبل ذلك، شيئًا قابلًا للتصديق.
ومن جملة ما رأى الفلسطيني: النكبة، التطهير العرقي، النكسة، الاحتلال، الاعتقال، المستوطنون، الخيمة، لاجئون، نازحون، هيئة الأمم المتحدة، كارت إعاشة، أرض، قصف، نزوح، تهجير، معبر، حاجز، جدار فصل، حظر تجوّل، غاز، ضرب، هدم، إبعاد، حرمان من التعليم، جوع، موت، استشهاد، اقتحام، مجزرة.
حتى الفلسطيني الذي يولد سنة 2024 رأى كلَّ ذلك، وبسببه، وعليه: لا يولَد طفلًا.