05-أبريل-2025
 (منصة إكس) يعاني الفلاحون في مصر من ظروف صعبة أثرت بشكل كبير على أنشطتهم الزراعية

(منصة إكس) يعاني الفلاحون في مصر من ظروف صعبة أثرت بشكل كبير على أنشطتهم الزراعية

الفلاحون.. أصل مصر.. ملح تراب الأرض.. مصطلحات عدة عُرف بها المزارعون في مصر، ممن يشكلون رقما صعبًا في خارطة الدولة، اجتماعيًا واقتصاديًا وديموغرافيًا، فهم الأكثر عددًا، والأكبر حضورًا، عصب الاقتصاد الأهم، وعامود الرخاء لعقود طويلة، ومقوم البناء والتنمية الأدوم.

تتراوح التقديرات بشأن عددهم بين 40 و60 مليون شخص، أي ما يعادل ما بين 45 و55% من إجمالي سكان مصر. ويساهمون بنحو 37% من الناتج القومي، في حين يشكّل العاملون منهم في قطاع الزراعة أكثر من 30% من إجمالي القوى العاملة في البلاد، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

أدى عدم وفاء الحكومة بتوفير بحصص الأسمدة المدعمة الكافية للفلاحين في زيادة الأعباء، حيث أضطر كثير منهم إلى اللجوء إلى السوق السوداء

يعتبرهم كثير من المؤرخين وعلماء  الأنثروبولوجيا الامتداد الأصيل للقدماء المصريين، وحاملي لواء النهضة الزراعية التي اشتهرت بها الدولة منذ قدم التاريخ، حين كانت مصر سلة غلال العالم وقبلة شعوب الأرض أوقات المحن والشدائد، لكن واقعهم اليوم لا يعبر بأي حال من الأحوال عن دورهم التاريخي وتأثيرهم الاقتصادي.

 إذ يعانون من أوضاع متدنية، فلا تأمين صحي ولا ضمانات اجتماعية،  فيما ضُرب نشاطهم الزراعي بحزمة من الأزمات التي قوضت دورهم وقلصت من تأثيرهم الاقتصادي  منها نقص مياه الري وارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وزيوت الديزل اللازمة لتشغيل آلات ضخ المياه، وهو ما أفقد الدولة المصرية الكثير من قدراتها الزراعية ومن ثم الاقتصادية.

ثلاثة قنابل موقوتة

بحسب نقيب الفلاحين، حسين أبو صدام، فإن هناك 3 أزمات خانقة، كدرت صفو المزارعين خلال الأعوام الأخيرة:

الأولى: قانون الري الجديد

يرى الفلاحون أن هذا أغلب مواد هذا القانون البالغة 131 مادة، كانت سببًا محوريًا في عرقلة التنمية الزراعية، وسعت لجمع أموال المزارعين تحت مسميات عدة، ومن أبرز تلك المواد المادة ( 38) التي تنص بعد التعديل على أنه "لا يجوز بغير ترخيص من الوزارة إقامة أو تشغيل أي آلة رفع ثابتة أو متحركة تدار بإحدى الطرق الآلية (الميكانيكية) أو غيرها لرفع المياه أو صرفها على مجرى نهر النيل أو المجاري المائية أو شبكات الري والصرف العامة أو الخزانات، سواء لأغراض الري أو الصرف أو الشرب أو الصناعة أو غيرها، وكذا رفع المياه من بحيرة ناصر"، ويصدر الترخيص لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد وبعد أداء رسم ترخيص بما لا يجاوز 250 جنيها عن كل سنة ويعفي من الرسم المساحات التي لا تتجاوز 10 أفدنة، وتنظم اللائحة التنفيذية الإجراءات والبيانات والشروط اللازمة لذلك.

وهناك أيضًا المادة ( 64) والتي يصفها البعض بهزيمة 1967، حيث اعتبروها نكسة للطموح في التنمية الزراعية وهي التي تحدد رسم ري الأراضي الزراعية التي لم يسبق لها الترخيص بالري بحد أقصي 200 ألف جنيه، وأغلب مواد القانون التي تعرقل الطموح الزراعي وتحبط التفكير في الاستثمار الزراعي، ونطالب بعرض مواد القانون على الرأي العام قبل إقراره.

الثانية: رفع إيجارات الأراضي الزراعية

حيث رفعت وزارة الأوقاف إيجار قيراط الأرض الزراعية من 300 جنيهًا إلى 400 جنيهًا، بزيادة قدرها 25%، مع الوضع في الاعتبار أن معظم أراضي الوزارة قريبة من المباني السكنية وذات جودة أقل من حيث الإنتاج والخصوبة، وهو ما يزيد من أعباء الفلاحين ويضعهم في مأزق كبير ما بين سد قيمة الإيجارات المرتفعة، وانخفاض معدلات الإنتاج.

الثالث: عدم توريد كامل حصص الأسمدة المدعمة للفلاحين

أدى عدم وفاء الحكومة بتوفير بحصص الأسمدة المدعمة الكافية للفلاحين في زيادة الأعباء، حيث أضطر كثير منهم إلى اللجوء إلى السوق السوداء، حيث تُباع شيكارة سماد اليوريا بـ 230 جنيهًا مقارنة بسعرها المدعم والبالغ نحو 164.5 جنيهًا، كما تباع "شيكارة" النترات المدعمه بـ 159.5 فيما تباع بالسوق السوداء بنحو 220 جنيها، وهو ما أدى في النهاية إلى ارتفاع كلفة إنتاج فدان الأرض الزراعية أو تراجع معدلات إنتاجيته في حال عدم توفير السماد اللازم.

أوضاع صعبة

بجانب القنابل الثلاثة الموقوتة التي تطرق إليها نقيب الفلاحين فهناك أزمات أخرى خانقة، كان لها تأثيرها في تدني أوضاع المزارعين المعيشية وعزوف كثير منهم عن مهنة الزراعة والبحث عن مهن أخرى بديلة، فوفق ما أشار مرسي سلامة ( مهندس زراعي) فإن الخارطة الزراعية المصرية تعاني من وضعية صعبة جراء قائمة مطولة من المشاكل.

يأت على رأسها نقص كميات المياه الضرورية للري، وهو ما دفع الكثير من الفلاحين لتغيير دورتهم الزراعية والبحث عن محاصيل أقل استهلاكا للمياه حتى وإن كانت ذو عائد مادي منخفض، بل وصل الأمر إلى فرض غرامات على كل من يتجاوز تلك التعليمات، الأمر تصاعد بشكل أكثر صعوبة بعد أزمة سد النهضة واحتجاز كميات كبيرة من المياه خلال الأعوام الأربعة الماضية، وهو ما أثر على حصة مصر من مياه النيل بصفة عامة.

الأزمة تفاقمت أكثر في ظل أزمة الأسمدة التي أطلت برأسها مؤخرًا وزادت من كلفة الإنتاج والأعباء الواقعة على كاهل الفلاح الذي وجد نفسه نهاية الموسم الزراعي خال الوفاض، حيث التكاليف على قدر الإنتاج، دون عائد مادي ملموس، يحفزه على الاستمرار في تلك المهنة التي ورثها أبًا عن جد، بحسب حديث المهندس الزراعي المصري لـ "الترا صوت".

يقول محمود عمر ( مزارع) إنه ورث الفلاحة عن جدوده منذ مئات السنين، وأنه دوما ما كان ينظر لتلك المهنة على أنها مصدر شرف وعزة، كونها السبب الرئيسي في نهضة مصر لسنوات طويلة سابقًا، لكن اليوم تغير المشهد تماما حيث بات الفلاح أخر ما تهتم به الحكومة، بل وصل الأمر إلى استعداء الفلاح من خلال بعض القرارات المؤذية على حد قوله، وهو ما انعكس على واقعه المعيشي، إذ لم يعد في مقدوره تلبية احتياجات بيته بعدما كان يدخر كثيرًا من عائد بيع المحاصيل في السابق.

وأضاف في حديثه لـ "الترا صوت" أن لديه 3 أبناء جميعهم اليوم رفضوا العمل في الزراعة بسبب عدم جدوى العائد منها، وبحثوا عن وظائف أخرى في القاهرة واثنان منهم سافرا لإحدى بلدان الخليج، ما دفعه العام الماضي لتأجير أرضه الزراعية لمزارعين أخرين، مشيرًا أن تلك المشكلة باتت سمة عامة لدى كثير من ملاك الأراضي في قريته الواقعة في إحدى محافظات الدلتا المصرية شمالا.

من جانبه يقول الصحفي السيد عبد الفتاح، المتخصص في الملف الزراعي، إن هذا الوضع المتدني للفلاحين والأزمات التي يواجهونها من عدم كفاية حصة المياه وزيادة أسعار الأسمدة وانخفاض أسعار المحاصيل وعرقلة الحكومة لشرائها وفرض قيود مشددة على التصدير، دفع كثيرًا منهم للاقتراض للوفاء بتكاليف الزراعة التي فاقت قدرات شريحة كبيرة من المزارعين.

وأضاف عبد الفتاح في تصريحاته لـ "الترا صوت" أن ديون الفلاحين لدى بنك الائتمان والتنمية الزراعي بلغت عدة مليارات، فيما بلغ عدد المتعثرين في أداء قروض البنك 275 ألف فلاح يتعين عليهم التسديد أو مواجهة السجن، مشيرًا أن تلك الديون تحولت مع مرور الوقت إلى سلاح في ظهر الفلاح تهدده ليل نهار.

وأشار الصحفي المتخصص في الملف الزراعي أنه رغم مبادرة الحكومة ممثلة في البنك المركزي والبنك الزراعي بشأن معالجة وإسقاط الديون عن 45 ألفا و200 عميل غالبيتهم مزارعون، بمديونية إجمالية بلغت 4 مليارات جنيه.، إلا أن الأزمة لا تزال قائمة وتحتاج إلى تدخل عاجل لحماية الفلاحين وتوفير سبل الحماية لهم. 

وفي الوقت ذاته حذر عبد الفتاح من تداعيات تخلي الدولة عن دعم الفلاحين بالشكل الكاف على مستقبل الزراعة في مصر، لافتا أن كثيرًا من أصحاب الاراضي اضطروا لتجريف أراضيهم أو البناء عليها أو بيعها بعد ارتفاع سعر الفدان من 350 ألف جنيه إلى أكثر من مليون جنيه في غضون الأعوام الخمسة الأخيرة.

من مركزية الاهتمام إلى حواف التهميش

مرت العلاقة بين الفلاح والدولة المصرية منذ تأسيس الجمهورية عام 1952 بالعديد من المحطات، يمكن تلخيصها في ثلاثة مراحل أساسية:

المرحلة الأولى (1952-1970)

تلك التي كانت خلال مرحلة الثورة وفي عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهي المرحلة التي شهدت إدماج الفلاح داخل المنظومة الاقتصادية وتحويله من مجرد مستأجر إلى شريك أساسي في النهضة الاقتصادية، وذلك بفضل قوانين الإصلاح الزراعي التي منحت الفلاحين ولأول مرة ملكية الأراضي الزراعية بعدما سُحبت من الإقطاعيين ووُزّعت على الفلاحين، لتنخفض حدة الفقر الريفي.

 المرحلة الثانية (1970-1980)

تلك التي كانت في عصر الرئيس الراحل أنور السادات، تلك المرحلة التي شهدت انفتاحا كبيرًا على الأسواق، داخليًا وخارجيًا، كما شهدت أيضًا أولى إرهاصات عزل الريف عن المدينة، وفيها تعرض الريف المصري لموجات هجرة مضادة غير مسبوقة، خاصة بعد رفع الحراسة عن الأراضي الزراعية التي استُردت من الإقطاعيين، لصالح الفلاحين، ما نتج عنه فقدان مئات الفلاحين للأراضي التي كانوا يعيشون على إيراداتها.

المرحلة الثالثة ( 1980 – حتى يومنا هذا)

وهي المرحلة التي بدأت مع ولاية حسني مبارك، حيث السياسة النيوليبرالية التي تبنتها الدولة في ذلك الوقت، ثم اللجوء إلى سياسة الخصخصة، والتحول التدريجي نحو تمدين الريف، من خلال بعض القوانين التي شكلت ضربة مؤلمة للمجتمع الريفي، خاصة تلك المتعلقة بسوق الأراضي الزراعية وإعادة تنظيم العلاقة بين الملاك والمستأجرين.

ففي تلك المرحلة سُحبت الحيازات الزراعية للفلاح المصري، الأمر الذي أسفر عن تقليص عدد الملاكين الصغار (الحائزين على أقل من فدان)، فيما زاد عدد متوسطي وكبار المُلّاك، مما أدى بعد ذلك إلى تكوين طبقة من الأوليغارشيه الزراعية، حيث أباطرة الاستحواذ على الأرضي الزراعية فيما تحول الغالبية العظمى من المزارعين إلى مستأجرين لا صوت ولا قيمة لهم.

وعامًا تلو الأخر تخسر مصر حلقة مهمة في مسلسل ريادتها الزراعية، تاريخيًا وإقليميًا، بعدما باتت الفلاحة مهنة المهمشين، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في العلاقة بين الدولة والفلاح، تلك العلاقة التي يعتبرها البعض ترمومتر النهضة الاقتصادية المصرية المبنية في بنيتها على القطاع الزراعي في المقام الأول.

ورغم الجهود التي تبذلها الدولة لتقليل الفجوة بينها وبين امبراطورية الفلاحين العظمى، التي تشكل أكثر من نصف التعداد السكاني للبلاد،  إلا أنها لم تكن كافية بالشكل الملائم لترميم الشروخات الكبيرة الغائرة في جدار تلك العلاقة، ما يدق ناقوس الخطر إزاء مستقبل الزراعة في البلد الذي كان في الماضي سلة غلال العالم قبل أن يصبح اليوم على مشارف فقر مائي وزراعي يهدد الأجيال القادمة.