27-يوليو-2017

صور دعائية للسيسي (محمد الشهيد/ أ.ف.ب)

هل تذكرون علي سيف، الرجل الذي ظهر في إحدى البرامج التلفزيونية أثناء التمهيد للانتخابات الرئاسية المصرية في 2013؟ إذا كان الاسم لا يزال غريبًا على أذهانكم، فأغلب الظن أنكم ستدركون الشخص المقصود حين أقول إنه "الفاجر القادر". ظهر الرجل مرة واحدة على شاشة التلفاز ضيفًا على مذيعة مغمورة، رفقة الصحفي وائل قنديل، للحديث عن مصر التي يتمناها ورؤيته للبلد وأسباب ترشحه لرئاسة الجمهورية.

مثّل السيسي لقطاعات واسعة من المصريين، خاصة من النساء، نموذج "الدّكر"، الذي يمكن الثقة فيه وإن لم تكن ثقةً في محلّها

حديثه نفسه لم يكن هو السبب وارء انتشاره أو بقاء سيرته في البال، ولكنها تلك الجمل الثلاث القصيرة والكاشفة، التي قالها خلال أقل من دقيقة ونصف، هذه هي ما ستجعله باقيًا وصالحًا للاستدعاء.

"مصر عايزة دكر"

"الشفاه المضمومة، والبسمة التي تبدو كتجشؤ مفاجئ يحاول الحنك احتواءه، ثم الصبغة بلمعتها التي يعرفها المصريون منذ عهد مبارك"، يكتب الكاتب والروائي المصري أحمد ناجي في مقال له، قبل ثلاث سنوات، محاولًا فهم أسباب نار حب عبدالفتاح السيسي الملتهبة في صدور عاشقيه رغم عدم تحصله ظاهريًا على مُقوّمات ذلك الوله والعشق. ولكن التجربة المصرية دائمًا مبهرة وتتكسّر على حافتها جميع النظريات.

اقرأ/ي أيضًا: عاشقات السيسي يشعرن بالخوف

حتى اللحظة، لا تزال مقاطع الفيديو موجوده على يوتيوب لمن يحب أن يعاود ذكريات تلك الأيام، حيث رقص البنات والسيدات الذي لم ينقطع في الشوارع، فرحًا بالرئيس "الدّكر" الذي سيخلّصهم من حكم الإخوان، الذين سيفرضون عليهم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان.

وسواءً اختلفت أو اتفقت مع ما حدث في 30 حزيران/يونيو 2013، تسمّها ثورة أو إنقلابًا، تعترف بالسيسي رئيسًا أم لا، ترى في السيسي رجلًا وسيمًا أو غير ذلك؛ إلا أنه على كل حال لا يمكنك إنكار فرحة قطاعات واسعة من المصريين بمجيء المشير عبد الفتاح السيسي رئيسًا للجمهورية، ولا يمكن لأي شخص شهد تلك الأيام ميدانيًا ألا يلاحظ الحضور القوي للعنصر النسائي في مشهد الانتخابات.

شخصيًا، أعرف بعض الحالات التي اشترطت فيها النساء على أزواجهن انتخاب السيسي من أجل نيل الوصل وقضاء وقت ممتع في الليل، تفسير ذلك السمت النسائي، ومن قبله حضورهن نفسه، اختلفت فيه الآراء، ولكن اتفق الكثير على تأكيد صورة السيسي كـ"رجل دولة يمكن الوثوق به بعد أن خيّب الإخوان ورئيسهم آمال ناخبيهم"، أي أنه بالعامية المصرية "راجل دكر قد كلمته"!

السيسي من جانبه، عمدًا أو دون قصد، حافظ خلال ظهوراته النادرة في تلك الأيام، على غموض يليق برجل قادم من المخابرات، يسانده تاريخ عريق لتلك المؤسسة التي لا يزال المصريون يعيشون على حكايات ملفاتها التي تخرج في أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية تخدّم على تلك الصورة الناصعة.

اقرأ/ي أيضًا: "كل البنات بتحبك".. شعار رجال المخابرات المصرية في الدراما

لم يكن مكثرًا في أحاديثه، وبالتالي لم تظهر "الإيفيهات" الساخرة منه ومن كلامه، ربما كان حديثه المتلفز على التلفزيون المصري، الذي ظهر فيه بزيه العسكري ومن ورائه لوحة تغلب عليها الخضرة وتجعلها أشبه بغابة، نال نصيبه المستحق من السخرية حينها، ولكن الأجهزة القائمة على "حملة ترشيح المشير عبد الفتاح السيسي رئيسًا للجمهورية"، سرعان ما تداركت الأمر وصار ظهور الجنرال بحساب ومع أسماء منتقاة بعناية.

في الأثناء، كانت الصور الرسمية للجنرال الذي سيصبح رئيس مصر تختصره في صورتين، ينظر في كلاهما للمدى المنظور أمامه، وفي إحداها يرتدي نظارة شمسية داكنة تضفي عليه بعض الغموض والمهابة. وفي ما عدا ذلك، لا برنامج انتخابي، ولا رؤية واضحة عن المستقبل، ولا أي شيء مما يُفترض بالمرشحين للرئاسة تقديمه للمواطنين، الحب و"الدكرنة" وحدهما حملا السيسي إلى كرسي الرئاسة.

"مصر عايزة فاجر وقادر"

في الديمقراطيات الطبيعية، تكون للمجالس النيابية المنتخبة شعبيًا مهمتان أساسيتان: مراقبة السلطة التنفيذية وإصدار التشريعات. هذا في بلاد أخرى ليست كبلادنا المحروسة بحاكم يعتبر نفسه طبيبًا مشهودًا له بالكفاءة من "كل الدنيا". لذلك، في الديمقراطيات العرجاء التي نعيش فيها منذ زمن، تكون المساءلة من نصيب الحكومة، أما الرئيس فهو آمن ومشمول بضمانات تضعه في مصاف "ألا يُسأل عمّا يفعل"، بعبارة الشيخ محمد متولي الشعراوي عن الرئيس السادات أمام مجلس الشعب.

ليس هناك في مصر من يجرؤ على سؤال الرئيس أو نقاشه أو مراجعته، وأصبح ما يقوله أو يُقدم عليه بمثابة الوحي الإلهي!

والآن ونحن نعيش واحدة من أسوأ النسخ الديمقراطية التمثيلية وأسوأ حالات الدولة المصرية بشكل عام، فليس هناك من يجرؤ على سؤال الرئيس أو نقاشه أو مراجعته، وبات ما يقوله الرئيس ويقدم عليه بمثابة الوحي الإلهي، لا مجال لبشري أيًا كان منصبه أو موقعه أو معرفته أن يتدخل فيه. أمثلة ذلك كثيرة ومؤسفة، ولكن الرئيس لا يجد حرجًا في الهجوم على كل من يحاول لفت انتباهه إلى أمر قد يكون أسقطه من حساباته، فمرة يتهمه بأنه "لا يفهم شيئًا"، وأخرى يتحجّج بأن "أجيب منين؟"، وما بينهما تدوي أصوات التصفيق المجاني في مؤتمرات ولقاءات أشبه بمعسكرات تلقين تليق بدول أكل عليها الزمن وشرب.

اقرأ/ي أيضًا: من فرانكو إلى السيسي.. الدكتاتورية حظوظ!

والأمر ليس ببعيد، فقبل أيام قليلة تابعنا وقائع النسخة الرابعة من مؤتمر الشباب الذي يعقده السيسي تحت رعايته، والمفترض فيه أن يسمتع الرئيس إلى الشباب لا العكس. لكن ما يحدث أن الرئيس يسترسل في تسويق نفسه ومشروعاته وخطط حكومته، وفي بعض الأحيان يدخل في نوبات ضحك هستيري غير مفهومة، ثم ينتظر تصفيق الجمهور، لننتقل إلى الفقرة التالية، وهكذا.

والأزمة الكبرى أن لا أحد يسأل ويحاسب الرئيس على ما وعد به المصريين والشباب في مؤتمرات سابقة. مبادرات لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، لا يعرف أحد إلى أين وصلت ولا من المستفيدون منها ومدى استحقاقهم بالأساس، وخطط بتحديث شامل للمناهج الدراسية خلال أشهر، وتمرّ الأشهر ولا يتغيّر شيء، وغيرها من الوعود التي ينثرها الرئيس في فضاء القاعات فيأخذها الهواء ولا يبقى لها من أثر. ثم بعد ذلك تخرج الصحف الموالية لتحدثنا عن "كل تلك الإنجازات التي حققها الرئيس للشباب"، ويكون على الجميع مباركة الخطوات الرئاسية لا البحث عما تحقق بالفعل.

الأمر يشبه ما حدث مع الثورة المصرية ذاتها، فبتراكم المطالب، نتيجة عدم تحقيق المطالب الأولى للثورة أصلًا، يجد معسكر الثورة نفسه باحثًا عن حد أدنى من المطالب الأصلية، ثم بعد هذا ينساها تمامًا لأن قوى الثورة المضادة تدخله في دوامات جديدة تجعله يبحث عن مطالب أخرى كانت قبل ذلك حقوقًا وأشياء أساسية.

من يصدّق أن في مصر الثورة تصدر أحكام بالسجن في قضية تظاهر أو تجمع أو تجمهر سلمي؟ بأي منطق يستطيع المواطن "العادي" بلع ما فعلته الحكومة به من زيادة أسعار كل شيء رغم وعود الرئيس المتكررة بعدم رفع الأسعار؟ وكيف يستقيم أن تأخذ الحكومة حقها وأكثر من المواطن المصري، ولا يطلب المواطن نفسه حقه المماثل في تعليم وخدمة صحية تحترم آدميته وتليق بالحضارة التي نتشدق بها على العالم الذي أصبحنا في أذياله؟ هل هناك أشرّ مما يفعله النظام الحالي بالمصريين، من تجويع وحصار ومفاوضة على حق الحياة ذاتها؟

يقول أرسطو: "من هم هؤلاء الذين يقترفون الشرّ؟ إنهم من يعتقدون كونهم قادرين على الظلم ولا ينالون أشد العقاب، خصوصًا أولئك الذين يملكون الجرأة على اقتحام الأفعال المنكرة والذين لهم تجربة كبيرة في الخروج من الدعاوى وأيضًا أولئك الذين لهم أصدقاء كثيرون، والأغنياء".

"أنا رئيس مصر القادم"

لا شك عندي في أن عبد الفتاح السيسي سيكمل معنا فترة ثانية رئيسًا لمصر، وربما يحدث أمر مفاجئ قبل شباط/فبراير القادم يُصدّر فيه برلمانه ليغيّر الدستور ويمدّد لنفسه سنتين إضافيتين في فترة الرئاسة. يتبقى أقل من عام على بدء إجراءات الانتخابات الرئاسية في مصر، ولا تزال الملامح غامضة، ولكن دعاية السيسي بدأت منذ شهر رمضان الماضي. دعايات ضخمة غير معروف مصدرها تظهر فيها "المشروعات القومية" عبر لقطات بانورامية مأخوذة من السماء، ودعايات أخرى يتكفّل بتقديمها رجال السيسي، مثل إمبراطور الإعلام الجديد أحمد أبو هشيمة، الذي استعان بكريستيانو رونالدو لعمل إعلانين "كومبو" لشركته "حديد المصريين" ولمشروعات الرئيس عبد الفتاح السيسي التي يشارك في بنائها حديد المصريين.

ولا حديث هنا عن تضارب مصالح ولا فساد سياسي ولا أي شيء، ولا أعرف لماذا تحسّرت على رئيسة كوريا الجنوبية التي تواجه السجن حاليًا لاتهامها في قضايا فساد بالتواطؤ مع صديقتها للضغط على شركات كبرى لتقديم تمويل لمؤسسات تدعم مبادراتها السياسية!

عمومًا، وبرغم قصر المدة المتاحة لحين بدء إجراءات الانتخابات الرئاسية، فإن الأوضاع السياسية الراهنة في مصر والممتدة منذ ظهور السيسي على الساحة السياسة كلاعب أساسي، أي منذ ما بعد 30 حزيران/يونيو 2013، تبدو عاملًا رئيسيًا مؤثرًا على خريطة الانتخابات وتشكّلها، خصوصًا في ظل حالة الموات السياسي التي نجح النظام في إدامته، عبر تقييد وتهميش للمجال العام للحركة السياسية، بل وتفتيت الأحزاب المدنية القادرة على إيجاد بديل مدني لمنافسة السيسي، مثلما حدث في حزب "المصريين الأحرار".

الكلفة الاجتماعية والاقتصادية التي يتحملها المصريون اضطرارًا لا تعبر عن الرضا كما تروج السلطة وإنما عن تراجع واضح في شعبية السيسي

نضيف إلى ذلك القبضة الأمنية التي تهيمن بها السلطة على أية تحركات معارضة لها، وربما يقدّم نموذج ما جرى في قضية تيران وصنافير مجرد مثال بسيط على طبيعة السلطة التي نواجهها وممارساتها، فضلًا عن مصادرتها الكاملة لحق التظاهر والاحتجاج. وهو ما يضاف إليه بالتأكيد التهميش الكامل لدور الأحزاب والقوى السياسية وتكريه الناس في السياسة وتشويه الحركات الشبابية والنخب السياسية، فضلًا عن المعارك المفتعلة مع النقابات ومنظمات المجتمع المدني وغيرها. وأخيرًا وليس آخرًا، فقد استعد نظام السيسي للانتخابات بإلغاء الإشراف القضائي عليها، وهو ما اعتبرته أصوات موالية أمرًا طبيعيًا "لأننا كبرنا على مثل هذه الأمور"، بحسب وزير الخارجية الأسبق والنائب البرلماني محمد العرابي.

اقرأ/ي أيضًا: 6 "غلابة" استفز بهم السيسي المصريين عاطفيًا

في ظل هذه الأوضاع كلها، ومعها ما يتعلق بالأحوال الاقتصادية في أعقاب خطة الحكومة، من تعويم للعملة المحلية ورفع الدعم عن الطاقة والوقود، فإن الكلفة الاجتماعية التي يتحملها ملايين المصريين اضطرارًا لا تعبر عن الرضا والقبول كما تروّج السلطة الحالية، بل عن تراجع واضح في شعبية الرئيس.

لكن كما سبق وقلت، فالتجربة المصرية مبهرة دومًا وحبلى بالمفاجآت. الرئيس السيسي لم يعلن، إلى الآن، موقفًا صريحًا حول الانتخابات المقبلة، فتراوحت تصريحاته بين تأجيل الإجابة عنه، إلى الحديث الذي تم نفيه بعدها عن شروطه للترشح، وصولًا إلى استعداده الفعلي لخوضها "في حال كانت تلك هي رغبة الشعب المصري"، وكأننا أمام تفويض جديد لا انتخابات تعددية يترشّح فيها مَن يرى في نفسه القدرة والكفاءة. المؤكد أن المشهد في حزيران/يونيو القادم سيختلف عن مثيله قبل أربع سنوات، ولكن النظام الحالي يعرف فعلًا ما يريده، ويبدو مستعدًا للوصول إلى هدفه مهما كان الثمن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السيسي.. فرعونٌ بلا أهرامات

تمديد السيسي لنفسه.. اسأل عن التوقيت!